سعدي الشيرازي (شاعر إيران في القرن السابع) عاشق بالمعنى العرفاني، والعاشق بهذا المعنى هو الذي يغلي صدره بالمشاعر النبيلة التي تدفعه إلى حبّ الجمال والكمال، من هنا فالعاشق لا يستقرّ ولا يخنع ولا يستسلم للظروف، بل يتحرك رغم كل الصعاب على طريق الجمال.

وعلى العكس من العاشق الإنسان المتبلّد الإحساس، الضعيف الهمّة، الذي لا يهتزّ أمام السحر ولا يطرب أمام الجمال.

وتربية الذوق الجمالي هدف كل الأنبياء والمصلحين، لأنه يدفع الإنسان للحركة نحو الجمال المطلق ويجعل الكائن البشري مُعرضاً عن القبائح والسيئات.

نحن اليوم بأمس الحاجة لتربية الذوق الجمالي لشبابنا لكي يطلبوا الجمال في كل مجالات حياتهم، ويعرضوا عن القبيح في المظهر والسلوك. والذوق الجمالي يبعد الشباب عن الوقوع في مستنقع الرذيلة ، لأن الشاب – إن تحلّى بالذوق الجمالي - يستطيع أن يفهم قبح الرذائل، ويفهم الفرق بين الجمال الحقيقي والجمال السرابي الخدّاع.

وهي مسألة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً،  لكنّا نكتفي بهذه الإشارة ونعود إلى سعدي الشيرازي الذي سعى فيما سعى إلى أن يستثير الذوق الجمالي الفطري في مجتمعه، الذي تكالبت فيه ظروف سحق هذا الذوق وإماتته، بفعل الأوضاع الاجتماعية السيئة.

هو أولا يكرّر الدعوة إلى التأمل في مظاهر الطبيعة ومافيها من جلال وجمال وأسرار، والى التعمّق بما وراء الظواهر من علاقات تربط كل الكون بهدف تكاملي واحد. يقول:

بذكرش هرچه بينى در خروش اسـت

                      ولى دانـد درين معنى كه گوش است

    نه بلبل بر گلش تسبيح خوانيست

                  كه هر خارى بتسبيحش زبانيســت

أي: كل ماتراه يموج بذكر(الله)/ لا يفهم ذلك إلا القلب السميع/ ليس البلبل فحسب يسبّح على وردته/ بل كل شوكةٍ لسانٌ ينطق بتسبيحه.

والقلب الذي يستطيع أن يتفهّم حقائق الأشياء هو القلب الذي يخفق بالعشق لا القلب المتبلّد الجامد. كلّ مظاهر الطبيعة تدعو الإنسان إلى أن ينفتح قلبه وينصقل ذوقه، بل لقد عُرِف عند العرب عن الجَمَل بأنه يطرب للصوت الجميل، فما بال الإنسان لا يهزّه الجمال؟!

يقول سعدي:

دانى چه گفت مرا آن بلبل سحري؟

                  تو خود چه آدمى كز عشق بى خبرى

 اشتر بشعر عرب در حالتست وطرب

                       گر ذوق نيست ترا كژ طبع جانورى

أي: أتدري ماذا قال لي البلبل في السحر؟ / أي إنسان أنت يامن لا  معرفة لك بالعشق؟!/ الجمل في الشعر العربي له ذوق وطرب/ وإذا لم يكن لك ذوق فأنت حيوان معوجّ الطبع.

ثم يردف سعدي هذين البيتين بيت عربي فيقول:

وعند هبوب الناشرات على الحمى
تميــــل غصــــــــــــــــــــــــــــــــون البـان لا الـحجـــر الصلـــــــــــد

يضع سعدي مواصفات للعاشقين منها أنهم لا يملّون الطلب والبحث للوصول إلى الجمال، يقول:

چو يعقوبم ارديده گردد سپيد

                        نبردم ز ديـــدار يوسف اميد

طلبكار بايد صبور وحمــــول

كـه نشنيـده ام كيمياگر ملول

چه زرها بخاك سيه در كنــــد

كه باشد كه روزى مسى زر كند

أي: فلئن ابيضّت عيناي، كما ابيضّت عينا يعقوب / فلن أقطع الأمل، من رؤية يوسف/ ولابدّ للطالب أن يكون صبوراً قادراً على التحمّل / إذ لم يُسمع أن كيماوياً (ساعياً للحصول على الذهب من معادن أخرى) أصبح ملولاً / فما أكثر ما ينفقه من مال وذهب / لعلّه يوماً يستطيع أن يحوّل النحاس إلى ذهب.

ومن صفات العاشقين أنهم يشعرون – رغم ثقل أعباء العشق – بالبهجة والسرور والحبور.

وسعدي مبتهج دائماً، لأنه يعيش في عالم مبتهج بخالقه، وسعدي عاشق لكل العالم، لأن كل العالم من فيض المحبوب. يقول:

بجهان خرّم از آنم كه جهان خرّم از اوست

عـاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست

أي: أنا مبتهج بالكون لأن الكون مبتهج به/ أنا عاشق لكل العالم لأن جميع العالم منه.

وما أجمل هذا الارتباط بالكون! إنه ارتباط يشرح الصدر، ويبارك العمر ويزكّيه ويرفعه، ويجعل العلاقة بين الإنسان والكون علاقة العاشق بالمعشوق.

ويفصل سعدي بين حديث العشق وحديث العقل، فالعشق حديث تضحية وفداء وتحمّل ومعاناة وإيثار، وحديث العقل حديث مصلحة ومنفعة واستئثار وطلب السلامة. يقول سعدي:

درديست درد عشق كه هيچيش طبيب نيست

گر دردمنــد عشق بنالـــد غريب نيست

دانند عاقــلان كــه مجانين عشــق را

پــرواي قول ناصــح و پند اديب نيست

أي: ما أشدّ ألم العشق الذي ليس له طبيب / وإذا ناح المصاب بالعشق فليس ذلك بغريب / يعلم العقّال أن مجانين العشق / لا يرعوون لقول ناصح وموعظة أديب.

وهذا لا يعني أن سعدي يدعو إلى ترك العقل، بل يرى أن عالم العشق غير عالم العقل، عالم العشق يتجاوز الذات، وعالم العقل ــ إن لم يكن مقروناً بالعشق ــ يكرّس الذات. بينما حين يكون مقروناً بالعشق، فإنّه يوجه حركة العاشق على الطريق الصحيح، إنه مثل مصباح السيارة، بينما العشق محرّكها. ولا نبالغ إذا قلنا إن كل الذين بذلوا جهودهم من أجل خدمة البشرية في أي مجال من المجالات هم عاشقون. والعرفاء يرون أن العشق هي النار التي تحرّك البشرية، وهو طاقتها المحركة، ويعبّرون عن العقل بأنه الدخان المصاحب للنار. يقول العطار في منطق الطير:

عشـق جانان آتش است وعقل دود

عشق چون آمد گريزد عقــل زود

أي: عشق الحبيب نار والعقل دخان / وحين يحلّ العشق سرعان ما يهرب العقل.

ويقول سعدي:

حديث عقــل در ايام پادشاهى عشق

چنان شده است كه فرمان حاكم معزول

أي: حديث العقل في أيام سلطنة العقل / أصبح وكأنه فرمان الحاكم المعزول.

منطق العاشقين غير منطق الأنانيين. والعرفاء يرون أن  العاشقين هم أصحاب الرأي الصائب والنظر الثاقب. يقول سعدي:

هر كسى را نتوان گفت كه صاحب نظر است

عشق بازى دگر و نفس پرستى دگر اسـت

أي: لا يمكن أن يقال عن أي شخص بأنه صاحب نظر/ فالسير على طريق العشق شيء وعبادة النفس شيء آخر.

سعدي يضع العاشق مقابل الأناني وعابد الذات، وبذلك يدعو إلى أن يكون الإنسان عاشقًا ينشد الجمال بعيدًا عن الذاتية والأنانية، مندفعًا دائمًا ليقدم الخير والعطاء للبشرية جمعاء.

(مجلة ثقافة التقريب - العدد الخامس صص ۹۱ - ۹۹)