دعوة سعدي الشيرازي
المجتمع البشري حيّ بعزّته فإذا ذلّ مات.. هذه حقيقة تؤكدها كل الدراسات التاريخية والاجتماعية، وتثبتها حقائق الواقع الراهن، من هنا فإن كلّ الأنبياء والمصلحين دعوا إلى صيانة عزّة الإنسان وكرامته على ظهر الأرض، كي يستشعر الحياة، ويسير على طريق استخلاف الله في الأرض وما يتطلبه هذا الاستخلاف من إبداع وابتكار واستثمار لمواهب الطبيعة وكنوزها.
وسعدي الشيرازي (القرن السابع الهجري) بأسلوبه الأدبي الرائع جَهَد لأن يحافظ على روح العزّة في مجتمعه بعد أن تكالبت عليه أنواع الظروف لإذلاله.
وأهم وَتـَر ضرب عليه لصيانة روح العزّة في المجتمع هو إنقاذ الناس من التهافت على الدنيا كتهافت الذباب على قطعة الحلوى. وإيقاظ العقول والقلوب على حقيقة هذه الحياة التي لا تبقى لأحد. وهذا لا يعني أنه دعا إلى ترك الدنيا، بل دعا إلى ممارسة الحياة ممارسة مترفعة عن الدنايا وعن الذاتية والأنانية، وعن الحرص والطمع ، وعن كل العوامل التي تخلق السلبيات في العلاقات الاجتماعية، وتحول دون تفتح مواهب الإنسان وكفاءاته ودون العطاء الاجتماعي العام. دعا إلى أن لا يتحول الإنسان إلى دودة تعيش في الظلام، لا تعرف إلا ما حولها، ولا تعمل إلا لإشباع نهمها الغريزي.
نــــراه في حكاياته بكتاب گلستان يخـاطب النفـس الإنســانية بأساليب مختلفة لينتشلها من وهدة الهبوط ويرفعها إلى الارتباط بالكون الفسيح وخالقه.
يقول في الباب السابع من الكتاب المذكور "سمعت واحدًا من الشيوخ المربين كان يقول لمريد: أي بني! لو كان ارتباط ابن آدم بالرازق بقدر ارتباطه بالرزق لارتقى على الملائكة في المقام".
وفي هذا المضمار ينشد أحياناً بيتاً بالعربية فيقول:
بئس المطاعم حينَ الذلِ يكسبها |
| |
|
القِدر منتصب والقَدرُ مخفوضُ | |
وأحياناً ينشد بيتاً بالفارسية يقول:
هركه نان از عرق خويش خورد |
| |
|
منّـت از حاتـم طائى نبـرد | |
أي: "كل من يأكل الخبز من عمله / لا يتحمل المنّة حتى من حاتم الطائي".
وأحياناً ينشد قطعة شعرية يقول:
"إذا أردت الغنى، لا تطلب غير القناعة / فإنها دولة هنيّة/ إذا نثر الغني الذهب بحجره / فحذار أن تنظر إلى نواله/ فقد سمعت كثيراً من الأكابر (يقولون) / إن صبر الفقير خير من بذل الغني".
وفي كتابه بوستان خصص باباً للقناعة يدعو إليه بقوله مثلاً:
ـ "اقنعي أيتها النفس بالقليل / حتى تري السلطان والفقير متساويين".
ـ"وابغ جوفاً طاهراً أينما تذهب / فإن البطن لن يملأه إلا التراب".
ـ"والنفس الأمارة تـُحيل المرء ذليلاً / فلا تطعها إن كنـت عاقـلاً".
وفي قطعاته الشعرية يكثر من التأكيد على عزّة النفس، وفي إحداها يصوّر أصدقاءه يقولون له:
"لماذا أنت يا سعدي لا تتحرك للحصول على المال والمتاع؟ / فأنت تتربع على عرش الشعر، فلماذا تعيش كما يعيش المرتاضون؟/ لو مدحت قليلاً فستنال الحظوة/ وصاحب الفن إن كان معدماً فهو مغبون، ولا يقدر أن يكسب ودّ الإخوان".
ثم يجيبهم: "لا أستطيع أن أرفع حاجتي إلى هذا المالك وذاك الثري/ فهذا من فعل المتكدين/ لو طُلب مني أن آخذ إبرة من اللئام/ لتحولت هذه الإبرة إلى إبر على جلدي مثل القنفذ/ لقد قلتَ: إن رضا الصديق لا يتيسّر إلا بالمال/ وهذا أيضاً خلاف المعرفة والرأي الصحيح/ فألف كنز ثمين يعادل حبّة من الفن/ والمنّة بعد ذلك على المعطي، والحيف عَلَيّ".
وهذه القطعة الشعرية تذكرنا بأديب إيراني آخر هو علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 366هـ)، فقد دعا جميع ذوي القلم والفن أن يحافظوا على شرف علمهم إذ قال:
يقولون لي: فيك انقباضٌ وإنما |
| |
|
رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما | |
إذا قيل: هذا مَنْهَلٌ قلتُ: قد أرى |
| |
|
ولكــــنّ نفسَ الحرّ تحتمل الظّمَا | |
ولم أقضِ حقّ العلم إن كان كلّما |
| |
|
بــدا طمـعٌ صَيّرتــُه لي سُلّما | |
ولم أبتذل في خدمة العلم مُهجتي |
| |
|
لأخْــدُمَ مَنْ لاقيتُ لكنْ لأخدَما | |
أأشقى به غَرْساً وأجنيــه ذِلّةً |
| |
|
إذن فاتـباع الجهل قد كان أحزَما | |
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم |
| |
|
ولــو عظّموه في النفوس لعُظّما | |
ولكن أهانوه فهانَ ودنّســوا |
| |
|
مــحيـّاه بالأطماعِ حتى تجهّما
|
(مجلة ثقافة التقريب - العدد السادس)