لمحات من حياة الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي
لمحات من حياة الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي
الأستاذ أحمد الخزعلي
باحث من جمهورية العراق
ـ لواء ديالى ـ
أحمد الصافي النجفي شاعر مبدع من بلاد الرافدين، كان يحمل في أعماقه طهر القباب الذهبية وإباء النخيل الباسقات، وحبّاً لا ينضب لأمّته، فانتجت قريحته الوقّادة قصائد عذاباً، تبقى غرراً فريدة في ديوان الشعر العربي، عاش شاعرنا المبدع شريداً ومات جريحاً وترنو عيناهُ إلى بلاده ليحتضنها بعد سني الغربة، ولكنه عاد مهيض الجناح، أقرب من الضرير إلى البصير فلم يرَ من حبيبه الوطن غير نسائم الفراتين تداعب قلبه المتعب من أعباء السبعين، هذا هو سِفر الشاعر العراقي الكبير أحمد الصافي نتعرف على جوانب من حياته الأدبية من على أجنحة هذه اللمحات.
نبذة عن المولد والنشأة
آل الصافي أسرة علوية يرجع تاريخ وجوهم في العراق إلى القرن الرابع الهجري، وهاجر أجدادهم إلى النجف الأشرف ومنطقة الحيرة القريبة منها حيث استقر قسم منهم هناك وفي النجف الأشرف ولد الشاعر المرهوب أحمد الصافي النجفي عام 1897 م، والتي اعتبرت آنذاك قبلة للأدباء والشعراء والعلماء لكثرة دواوينها العلمية والأدبية ومنابرها الوطنية. وكان أكثرها شهرة هو ديوان السيد محمد رضا الصافي عميد أسرة آل الصافي الأديب والشاعر، وهكذا نشأ الشاعر أحمد الصافي في هذه الأجواء، وفي كنف شقيقه السيد محمد رضا (صاحب الديوان)، فقرض الشعر في العاشرة من عمره، وترعرع في جو عائلي يكاد يكون علمياً خالصاً، من الآباء والأجداد والأصدقاء، فشب على عمر يقترن فيه العلم بالحرية، والثورة بالحياة حفظ القرآن الكريم صغيراً وأتقن العربية وعلومها حتى درّس فيما بعد الأدب العربي بطهران أثناء تواجده فيها ـ سيأتي الحديث عنه لاحقاً ـ . اشترك الصافي النجفي في تجمع أدبي ضم نخبة من شباب النجف، اتخذوا من مدرسة آل الخليلي الكبرى مقراً، فشرع يقرأ بشغف الكثير من الدواوين الشعرية والقصص الأدبية.
أحمد الصافي ورباعيات الخيام
وأثناء مطالعاته الكثيرة للآداب المختلفة في التجمع المذكور، شغف بترجمة الأديب اللبناني وديع البستاني لرباعيات الشاعر الإيراني الحكيم عمر الخيّام التي نقلها (البستاني) عن اللغة الإنجليزية لـ (فيتز جيرالد) ولقد أسف الصافي وقتها لا لأنّ المترجم وديع البستاني لم يترجم من رباعيات الخيام إلاّ سبعين رباعية وتمنى لو كان قد أتم هذه الرباعيات التي تجاوزت المائتين في تحقيق المستشرق الألماني (خولدكه)، هذا وظل الصافي تراوده فكرة ترجمة هذه الرباعيات على أمل تحقيقها والجدير ذكره أنّ ترجمة وديع البستاني لرباعيات الخيام تعتبر أقدم ترجمة للعربية، ثم جاءت ترجمة الشاعر أحمد الصافي، والشاعر العراقي طالب الحيدري والشاعر المصري الشهير أحمد رامي، والشاعر العراقي المعروف جميل صدقي الزهاوي، وفاضل عبدالحق المصري والشاعر البحريني إبراهيم العريض وغيرهم.
الصافي يترجم رباعيات الخيام في إيران
وهكذا بدأت قصة ترجمة الصافي النجفي لرباعيات الخيام، وأخذت تتبلور لتظهر في عالم الأدب الرفيع بصورتها الرائعة، ففي العشرين من عمره اشترك الصافي مع صديقه عباس الخليلي في التجارة فاشتريا محتويات سفينة جاءت من البصرة إلى الكوفة محملة بالأقمشة وهي أول سفينة أتت من البصرة عقب احتلال الإنجليز لبغداد، وحين حُكم على صديقه الخليلي بالاعدام لاشتراكه في ثورة العشرين المعروفة (30/6/1920) تسلم الصافي البضاعة خوفاً من مصادرة سلطة الاحتلال لها، وحين دوهمت بيوت آل الخليلي بحثاً عن عباس الخليلي الهارب دُوهم بيت الشاعر أيضاً فخاف الصافي على نفسه وفرَّ إلى إيران ملتحقاً بصديقه الذي وصلها قبله ليستقر فيها وفي مدرسة (مرو) بشارع ناصر خسرو في قلب العاصمة طهران حصل الصافي على غرفة مستقلة مع مخصصات شهرية مكنته من العيش إلى حد ما فجدَّ في تعلم اللغة الفارسية وقرأ بها الكثير من الأدب الفارسي حتى أتقنها بصورة جيدة وانكبَّ على رباعيات عمر الخيّام التي عشقها من قبلُ ووجد أنها أكثر من أربعمائة رباعية وبدأ بترجمتها بشغف وحبّ شديدين ليحقق حلمه القديم والتقى الصافي النجفي بكبار رجال السياسة والعلماء والشعراءووجوه البلد في ديوان أحد الوجهاء الإيرانيين عن طريق صديقه القديم عباس الخليلي فعرفوا فضله ومقدرته الأدبية والعلمية خاصة بعد أن أتم ترجمة رباعيات الخيام وكانت أجود ترجمة لرباعيات الشاعر الفيلسوف عمر الخيام على يديه والتي كان من أشد المعجبين بهذه الترجمة (بهار) وهو الشاعر الذي احتلَّ في اللغة الفارسية منزلة (أحمد شوقي) أمير الشعراء في اللغة العربية، وكان العلاّمة الكبير محمد القزويني الذي درس عليه الدكتور مصطفى جواد بباريس أيام دراساته العليا في (السوربون / فرنسا) في مقدمة المعجبين بهذه الترجمة، ولاعجاب القزويني هذا قيمة كبيرة في عالم الأدب بصفته أحد العلماء المتضلعين باللغة العربية وآدابها فضلاً عن تضلعه باللغتينِ الفارسية والفرنسية وكن نتيجة هذا الاعجاب بترجمة الصافي لرباعيات الخيام أن تولى السيد القزويني تقديم هذه الترجمة بقلمه، والتي طبعت خمس مرات وبثلاثمائة وإحدى وخمسين رباعية بمتانة جيدة وتعبير دقيق لأغراض الشعر وعلى أثرها قُلّد وسام العضوية في النادي الأدبي بطهران وعمل في الصحافة والترجمة كما درَّس الأدب العربي في جامعة طهران وبعد سبع سنوات قضاها في إيران عاد إلى النجف الأشرف عام 1927 م، وكان له علاقة كبيرة برباعيات الخيام المترجمة ويحملها معه في حلّه وترحاله فهي معه أثناء عودته إلى النجف الأشرف ومنها إلى بغداد وأخيراً في حقيبة سفره مع أشعاره إلى سوريا فلبنان لكثرة تعلقه وشغفه بها ومن مواقفه في هذا المجال أنه رفض استلام مبلغ (500) دينار عراقي من بعض دور النشر في بغداد وبيروت لاعادة طباعة ترجمته لرباعيات الخيام مُعلّلاً ذلك أنها كانت تردد على أفواه الجهلة في نوادي اللهو والمجون ولأنّ رباعيات الخيام أرفع وأسمى من ذلك. ونذكر هنا إحدى الرباعيات المترجمة لشاعرنا المبدع الصافي النجفي (رحمه اللّه) 1 :
قد انطوى سفرُ الشبابِ واغتدىربيعُ أفراحي شتاءً مُجدبا
لهفاً لطيرٍ كانَ يدعى بالصِّبامتى أتى وأيّ وقتٍ ذهبا
أمّا صاحب الرباعيات الشهيرة فهو العارف الحكيم أبو الفتح عمر بن إبراهم الخياميّ النيشابوري فيلسوف ورياضي ومنجم وشاعر إيراني عاش في نهاية القرن الخامس الهجري وتعود شهرته الواسعة في العالم إلى شعره الرباعي في حين كان اهتمامه العلمي يفوق اهتمامه الأدبي والشعري بشكل خاص بل إنّه كان يلجأ إلى الشعر حينما كانت تداهمه موجة من الارهاق والتعب ـ حسب ما يذكره لنا التاريخ ـ من شدة الانهماك العلمي ويتخذ من الشعر الوجداني وسيلة للراحة لما فيه من إيقاعات موسيقية وآفاق واسعة تثير البهجة والسرور في أعماق النفس فيرتمي في أحضانها هرباً من الجدية العلمية ذات العناء الشديد فكان حصيلة ذلك الهروب اللطيف تلك الرباعيات الجميلة التي طبقت شهرتها الآفاق حتى ترجمت إلى عدة لغات عالمية بعد أن شغف بها العديد من العلماء والشعراء في شتى أنحاء العالم ومن بينهم شاعرنا المبدع أحمد الصافي النجفي.
أحمد الصافي ونماذج من أشعاره الإيمانية
ولشاعرنا السيد أحمد الصافي أشعار كثيرة تنبعث منها الروح الإيمانية بجلاء، والتي نقتبس منها مقتطفات لمقالنا هذا، فشاعرنا المرحوم كان يبدو في فترات من خلوات حياته إنساناً متفكراً أقرب إلى الصوفي المتأمل بعظمة الوجود وخالقه العظيم، فيقول شعره في اللّه عزّ وجلّ والإسلام رقيقاً خاشعاً وكأنما يستغفر ربّه تائباً من ذنبه لعلّة انشغاله في حياته الطويلة عن التعبد، وكثيراً ما كانت أشعاره تذاع من الاذاعة اللبنانية في بيروت آنذاك في السبعينات. وتنشر في مجلتها «هنا بيروت» والتي كنت أواظب على مطالعتها وقتذاك، ومن تلك القصائد الفريدة «التقاعد المضمون» يناجي فيها ربّه بنبضات عرفانية جميلة وضمان تقاعده عند اللّه سبحانه وتعالى في رضاه عنه الذي لا يثمن بأي راتب تقاعدي، ومن تلك الأشعار قصيدته «اللّه» نلاحظ فيها النبضات العرفانية والعقائدية، لم لا وهو ابن النجف وحافظ القرآن الكريم، والدارس العلوم الدينية في الحوزة العلمية على أيدي أساتذة كبار، منهم: حسين الحمامي وآية اللّه العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني:
راح يقوي على المدى إيمانيفبربي قد إمتلا وجداني
قيل لي هل عرفته بدليلأو بحسٍّ أو عيانِ
قلت كلا إيمان قلبيَ أقوىمن دعاوى الحواسِ والبرهانِ
واضح لي وضوح روحي وعقليماثل في مداركي ككياني
هو رمز الوجود سرّ التجليهو روح الأكوان معنى المعاني
كلما عفته رجعت إليهكرجوع الأفياء للأغصانِ
فاعتقادي باللّه روح وجوديوجحدي له انتحار ثانِ
ممسك بي وإن تخليت عنهحافظ لي وإن تركت عناني
وهذه أبيات من قصيدة بعنوان العقل واللّه في طياتها نفس الأفكار العرفانية والتوحيدية إذ يقول:
إذا طغى العقلُ على ربِّهِفالعقلُ معناهُ هو الجهلُ
يعترضُ العقلُ على خالقمن بعض مصنوعاته العقلُ
إن بانَ فضلُ العقلِ في صُنعهفصانع العقل له الفضلُ
عبدته لم أدْرِ ما كنههوالجزء هل يعرف ما الكلُ
لم أدْرِ إلاّ أنهُ خالقيولإنّني لشمسه ظِلُّ
وله قصيدة في فضل القرآن وإعجاز بيانه الفريد:
متى رُمْتَ تحليقاً إلى العالم الثانياتخذتُ جناح النفس آية قرآنِ
وانْ رحت أتلو آية متمتعاًرجعت ملاكاً لابساً جسم إنسانِ
فدنيا تعاليم وكون فصاحةومجمع أديان ومنبع عرفانِ
أغر بأشعاري ولما تلوتههزأت بأشعاري وفني وتبياني
ومن درر قصائده الإيمانية نشيده «اللّه أكبر» :
أُفكِّرُ بالسفاسفِ في الحياةِوأحسبُها حقائقَ راهناتِ
فيقطعُ لي سلاسلَ تُرَّهاتيصياحُ مؤذنٍ اللّهُ أكبر
واضربُ سادراً بينَ الهمومِوأسعى للوصولِ إلى النعيمِ
فيهديني إلى النهج القويمِهُتاف مؤذنٍ اللّه أكبر
وأفني في الرقادِ ثمينَ عمريكأني ميتٌ في جوفِ قبرِ
فيوقظني لأُحشرَ كلَّ فجرِصِياحُ مُؤذن اللّه أكبر
وغرق في مطالعة الكتابِوأنعمُ بينَ أوهامٍ عذابِ
فيرجعني إلى دنيا الصوابِصُراخُ مؤذن اللّه أكبر
وأسعى نحوَ آمالٍ عظامِوأخشى أن يُخيِّبها حِمامي
فيشفيني من الداءِ العقامِهتاف مؤذن اللّه أكبر
واذهبُ لتَّنزه في اختيالِوأمرحُ بين أنواعِ الجمالِ
فيوقفُني ويسخَرُ من خيالينداءُ مؤذنٍ اللّهُ أكبر
وتُبهرُني أحاديثُ العظامِوما تحويهِ من حكمٍ سوامِ
سينفذُ في غدٍ كلُّ الكلامِولا يبقى سوى اللّهُ أكبر
ويمعن في أحاديث شتاتِونبقى بينَ هاك وبين هاتِ
ونُمعنُ في التخاصمِ والنضالِونُفني العمرَ في قيل وقالِ
فيعلو قاطعاً صوتَ الجدالِصِياحُ مؤذنٍ اللّهُ أكبر
ونأخُذُ في أحاديثٍ شتاتِونبقى بينَ هاك وبينَ هاتِ
فاسمعُ صوتَ حيَّ على الصلاةِفانهضُ صائحاً اللّهُ أكبر
وهناك نماذج كثيرة من أشعاره الإيمانية بين دفتي دواوينه العشرة ومجموعته الأخيرة من أشعاره التي لم تنشر.
أحمد الصافي وقضية فلسطين
ولشاعرنا الكبير أحمد الصافي مواقف وطنية رائعة تظهر عليه بوضوح في أشعاره منها ما قاله في فلسطين السليبة يحثُّ فيها المسلمين والعرب على تحريرها من براثن الصهيونية العالمية، منها:
أتصبحُ هاتيكَ الحقائقُ أوهاماويحكمُنا صهيونُ عرباً وإسلاما
إلهي إنْ نعجزْ فلستَ بعاجزٍفمالَكَ قد أسكنْتَ بيتَكَ هدّاما
أفي منزل الأرواحِ تُسكنُ أجساماوفي مهبطِ الأملاكِ تجعلُ أصناما
وفي شرقِكَ الروحي تتركُ أمّةًتكالبُ أطماعاً وتنهشُ إجراما
وما الشرقُ إلاّ معبدٌ لكَ خالدٌلدينِكَ كُهّاناً يضمُّ وخدّاما
أتصبحُ أرضُ القدسِ دارَ خلاعةٍوتُبدَّلُ من طُهرِ العبادةِ آثاما
وقد ذكر الدكتور محمد حسين الصغير في مقدمة كتابه «فلسطين في الشعر النجفي المعاصر» أبياتاً لشاعرنا المرحوم أحمد الصافي النجفي، منها:
محمدٌ هل لهذا جئت تسعىوهل لك ينتمي همل مشاعُ
أ إسلامٌ وتغلبهم يهودٌأ أسادٌ وتقهرُهم ضباعُ
شرعتَ لهم طريقَ المجدِ لكنْأضاعوا نهجَك السامي فضاعُوا
صور من إبائه وعزت نفسه
كان شاعرنا الكبير أحمد الصافي النجفي مشهوراً بشدة إبائه وعزة نفسه ورفضه لكل ما يشم منه رائحة العطف أو المساعدة حيث يعتبر هذا الأمر استهانة به وجرحاً لكرامته رغم سوء حالته الاقتصاديّة وحاجته الشديدة إلى المال، حتى أعيا هذا الأمر أهله في مدينة النجف الأشرف الذين كانوا يسعون إلى مساعدته والتخفيف عن كاهله وهو في سوريا أو لبنان ولكنه كان يرفض هذه المساعدة ويعيد لهم المال دون أن يمس منه شيئاً، وفي إحدى المرات أنشأ عدد من الأدباء في بلاد الشام نادياً أدبياً ودعوا الصافي إلى إلقاء قصيدة فيه وقد لبّى الصافي الدعوة وألقى قصيدة عامرة، وبعد فترة عرض عليه النادي القبول بعضويته ضمنوا له شراء كافة مخطوطات دواوينه مع شراء بيت له يكون سكناً دائماً له بدلاً من التنقل في الفنادق، فما كان إلاّ ورفض هذا العرض المغري بعد أن شعر أنّ هنالك نوعاً من التعاطف والشفقة في هذا المجال.
وفي إحدى المرات دُعيَ شاعرنا الصافي إلى إلقاء قصيدة في إحدى المنتديات الأدبية في لبنان، وقام عريف الحفل بتعريفه مطلِقاً عليه لقب أمير الشعراء، ولكن هذه التسمية أثارت الشجون في نفس فضمتها رباعياته الشهيرة حيث يقول:
فكم من أحمق فيهم دعانيأميراً مالئاً قلبي شجونا
دعاني بالأمير وكنت أولىبأن أُدعى أمير المفلسينا
ويقول أيضاً :
صافحتْني يدُ امرئ فرآنيساخنَ الكفِ من لظى الوسواسِ
قال هذي حرارة الإيمانقلتُ لا بل حرارةُ الإفلاسِ
ومن أجمل ما وصف به إفلاسه قوله:
يراني الاقتصادُ وهدّ جسميبمنعي عن مآكلِ واجباتِ
أضرّ بيَ الطوى حتى كأنيلنقصِ الأكلِ آكلُ من حياتي
وفي الإفلاس والمرض يقول:
مذ رآني الطبيبُ قال دعْ السعيوهمّاً به حشاكَ يجيشُ
قلتُ إنّي أسعى ولا ألحقُ العيشَفان أسترحْ فكيفَ أعيشُ
وبلغ من إباء الصافي بحيث صار يشكك حتى في هدية الصديق المألوفة مثل ساعة اليد أو القلم أو مبلغ من المال، حيث كان يساؤل نفسه: أهي هدية من الهدايا المتعارفة عند الناس أم هي ضرب من ضروب المساعدة والاشفاق. وفي إحدى المرات قدم له صديق قديم مبلغاً من المال داخل رسالة في مناسبة من المناسبات فحار الصافي في رفض المبلغ أو قبوله، وقد عبّر عن هذه الحيرة في أبيات، منها:
ونبيلُ قومٍ جادَ لي برسالةٍفواحةٍ من لطفِهِ بعبيرِهِ
وإذا بها ملغومةٌ بسخائِهِفأحترتُ بين مسائتي وسرورِهِ
حاولتُ ردَّ سخائِهِ فخشيتُ أنأقضي على نبعِ السخا بضميرِهِ
فرضيتُ منكسراً بجرحِ كرامتيوقبلتُ جرحي خوفَ جرحِ شعورِهِ
ولعل الكثير من الأدباء آنذاك يجهلون هذه الصفة في شاعرنا الصافي فكانوا عندما يكتبون عنه يفيضون في شرح أبعاد شاعريته يعرجون إلى بؤس حالته وضنك عيشه ويحثون الحكومة العراقية على تخصيص راتب له لانقاذه من حالة البؤس وشظف العيش، فكان الصافي عندما يقرأ ما يكتب عنه يستشيط غضباً. وفي إحدى هذه الحالات سارع الصافي إلى ارسال رسالة إلى الصحف العراقية يقول فيها: لقد حرتُ واللّه ماذا أكتب وبماذا أجيب كلام هؤلاء الأصدقاء والمحبين الذين لا يعرفون كيف يظهرون عواطفهم تجاهي فيجرحونني وهم يحسبون أنهم يداوون جرحي. لقد أصبت من الزمان بجروح كثيرة ولكن كن أعمقها في نفسي التوجع لي والتأسف والتلهف عليَّ.
وفي هذا المضمار حدثت جفوة طائة بينه وبين صديقه الحميم عباس الخليلي وعلى أثرها جاءت قصيدة الصافي الشهيرة التي تحمل عنوان «الصديق الثري» وفيها يقول:
فكم قضّيتُ دهراً مع صديقييظلّلُنا لشقوتنا الهناءُ
توفّق للغنى فأزورَّ عنيوبدَّل بالجفا منه الأخاءُ
لذاك نأيتُ عنه وفي فؤاديبقايا الودِّ يطردُها الجفاءُ
وذكرى الودِّ لازالت بقلبيلدى الأيام يحفظها الوفاءُ
وأبكي كلّما أرنو إليهاويسبقُها ـ متى ترني ـ البكاءُ
وأرثي بالقريضِ قديمَ حبّيلو أن الميتَ يُرجعُهُ الرَّثاءُ
أدام اللّه أصحابي بفقرمخافة أن يفرقنا الثراءُ
وتعليقاً على ما ورد أعلاه ذكر الأديب جعفر الخليلي في كتابه الشهير «هكذا عرفتهم»: ويوم ذكر لي الصافي أنه يقصد بهذه الأبيات أخي عباساً عن أخي ذلك حسبما أعرف أنا عنه ويعرف عارفوه أن يكون للمال عند قيمة فسكت الصافي. ولم يرد عليَّ لذلك لا يبعد أن يكون للوهم أثره في هذه الجفوة سواء كان قد داخل ذهن أخي أو داخل ذهن الصافي أو داخل ذهن كليهما معاً وهذا الأخير أرجح، وإلاّ لماذا لم يسأل عن الصافي بعد انقطاعه وأشهد أن أخيك أن يسألني مرات في رسائله ويسألني عنه عند زيارتي له في طهران ويحن إليه.
هذا وكان شاعرنا الصافي النجفي يعيش على موارد دواوينه، وكان مترفعاً عن قبول المساعدات المالية التي تقدمها الجهات الرسمية إليه وترفع عن المدح. وهكذا امتاز الصافي النجفي بعزة النفس وبالإباء المنقطع النظير متطبعاً مع فقره وإفلاسه الدائم بانشراح لوجود ملكة القناعة في أعماق نفسه الأبية حتى ضُرب به المثل، وهو القائل:
أنا حسبي ثروة من أدبٍقد كفتني عن طلاّب الذهب
فليدم جيبي فقيراً إنّمافقرُ جيبي ثروةُ للأدب
ويقول الأديب عباس الخليلي: ومن هذا الشيء الكثير الذي حكى واقعه ولكنه ما قبل شيئاً من أحد ولو أراد لفاقت واللّه ثروته ثروة أحمد شوقي وغيره دون إذلال أو دون إستعطاء.
الشاعر الرحالة
لم يكن شاعرنا أحمد الصافي النجفي رحالة يجوب بقاع الأرض ليكتشف بدائع الآثار وروائع الفنون وخفايا المدن كما فعل الرحالة ابن بطوطة وغيره بل كان الصافي شريداً من كيد حكام الجور الضالعين في ركاب الاستعمار لرفضه وجود المحتلين الأجانب لبلاده فاضطر إلى مغادرة العراق إلى إيران ملتحقاً بصديقه عباس الخليلي الذي وصلها قبله هارباً بعد ثورة العشرين 30/6/1920 التي قادها علماء الطائفة الشيعية ضد الاحتلال البريطاني حفاظاً على نفسيهما من بطش السلطة. كما اضطر إلى مغادرة العراق ثانية والذهاب إلى سوريا سنة 1930 م، وفي منتصف الأربعينات استقر في بيروت، كان الصافي يكره الإنجليز كثيراً بسبب جرائمهم في العراق والدول العربية حيث يقول:
أحارب جيش الإنجليز لأننيوقفت على نصر الحقيقة مَخذَمي2
أحاربهم حربي لكل رذيلةإلى كل شيطان إلى كل أرقمِ
أخاف إذا ماتوا تموت أباليسفأبقى بلا لعني لهم نصف مسلمِ
تحاربهم روحي وكفي ومنطقيوإن هم نووا قتلي يحاربهم دمي
وعندما اجتاح الإنجليز لبنان سنة 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية زجوا بالشاعر إلى السجن حيث كان من أبرز من تصدروا المظاهرة التي قامت بوجه القوات الغازية أثناء دخولها بيروت. وفي السجن ألف ديوانه «حصاد السجن» وهكذا عاش الصافي بعيداً عن بلاده مغترباً وحين شبت الحرب الأهلية في لبنان أُصيب برصاص قنّاص فسقط على وجهه وكاد الموت يدركه لولا عناية اللّه سبحانه فنقل للمستشفى وأُحيط بعناية فائقة.
الصافي شاعر المتأملات الوجدانية
كان الصافي النجفي شديد الاستغراق والتأمل، منغلقاً على ذاته، سريع الثورة والانفعال، فهو يجمع في شخصيته بين النموذج العاطفي والعصبي، لكنه أقرب إلى العاطفيين من حيث ترجيعه البعيد للحوادث في نفسه والتزامه قيماً ومبادئ ثابتة لا يحيد عنها، فقد اختار نمط حياته بذاته ولم يخرج عن عاداته وتقاليده قيد أنملة، وكان يؤمن أنه صاحب رسالة، وإنسان جدير بالإقتدار:
ولي في الشعرِ مدرسةٌ وشرعٌوآياتٌ تلوحُ ومعجزاتُ
أعلمكم بشعري الشعر لكنتعلمُكمْ حياتي ما الحياةُ
برز الصافي النجفي في دنيا الشعر في الثلاثينات. يوم كان جيل أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران يودع العالم، وفي فترة بدأت فيها موجة المدرسة الابداعية تغزو حياتنا الأدبية، لكن تكوينه النفسي جعله يعلي مكانة العقل في شعره فوق مكانة الإحساس. ويؤثر الواقع والفكر على الخيال والإبهام، ويفضل التعبير عن الحياة وما فيها على التحليق في عوالم سحرية متخيلة، فظل أقرب إلى المتنبي من حيث تمجيده العقل، وإلى المعري في نظرته المتشائمة إلى الحياة، ولم يأخذ من الرومانسيين تمجيدهم الطبيعة وإحلالها محل الواقع، وإنما نظر إلى الكون والإنسان والمجتمع نظرة متوازنة بعيدة عن الشطط.
وفي شعره نظرات إنسانية واجتماعية ووصف للواقع وفلسفة عملية تلتقي وفلسفته المثالية، وإذا كان مظهره وسلوكه الخارجي قد أسبغا على حياته بعض الشذوذ والطرافة، فإن شعره يستمد طرافته من تفرد أفكاره وجدَّتها، وحسن تناوله الموضوع الذي يطرقه، وصدق تأملاته وموضوعيتها وتركيزه الشديد على شدّ القارئ باختيار الموضوعات التي يعالجها. نراه بتأملاته يصنف البشر إلى ملاك وشيطان إذ يقول:
عجبتُ للناسِ يُدعى كلُّهم بشراًوذا ملاكٌ وذا يبدو كشيطانِ
هذا يرقُّ لذي بؤسٍ فيطعمُهُوذاكَ يسلبُ خبزَ البائسِ العاني
احاولُ السب للإنسانِ من رجلٍمؤذٍ فيسكتُني إحسانُ إنسانِ
حتى حسبتُ وفعلُ الناسِ مختلفٌإحسانٌ ذلكَ تكفيراً عن الثاني
والنجفي شاعر مجدد، لكن تجديده يفترق عن تجديد معاصريه، فهو يستعين في فنه بمادة لغوية واضحة وسهلة ودقيقة، وأسلوب لفظي تقليدي لكنه مجدد في أفكاره، يجهد كثيراً في صوغ الفكرة لتأتي طريفة ممتعة ولا يطيل قصائده، وإنما يقدمها على صورة مقطوعات شعرية وجيزة، وسهلة ممتنعة تسحر القارئ، وليس نهجه الشعري هذا غريباً عن أدبنا، فقد أ لّف الشعراء العرب هذا النهج وجعلوه من بعض شعرهم أقوالاً سائرة محكمة النسج، وجيزة القول، حتى كأن كل مقطوعة منها هي زبدة قصيدة طويلة، تعد من الشوارد التي تجمع في مختارات الأدب. ومن أشعاره مقطوعة جميلة يخاطب بها «القنبلة الذرية» التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية ضدّ اليابان عام 1945 م، في مدينتي هيروشيما وناكازاكي ويضع علاجاً لمأساة البشرية بفكر سامٍ :
يا ذرةً لبناءِ الكونِ ناسفةًهل تستطيعين نسفَ الحرصِ والطمعِ
قد انفجرتِ فزلزلتِ الوجودَ بناهلاّ انفجرتِ لنا في رأسِ مخترعِ
فكُّ الكهاربِ من دنياكِ محكمةٌأخفُّ من فكِّ ما في النفسِ من جِشَعِ
يا ذرةَ العقلِ في دنيا الورى انفجريوحطمي عالَم الأوهامِ والبِدَعِ
هذي قيامتُنا الصغرى قد ابتدأتفهل قيامتُنا الكبرى على التَبَعِ
عجبتُ للعقلِ من سرِّ الإلهِ دناوالخُلقُ مازالِ خلقَ النمرِ والضَبُعِ
ونفر من الروح المادية لعصرنا، فعبّر عن نفوره قائلاً:
أنا والعصرُ قد تعاكستُ سيراًفكأني أعيشُ في عصرِ نوحِ
أنا أسمو في عالمِ الروحِ دوماًفي زمانٍ لم يعترفْ بالروحِ
ومن طرافة تأملاته قوله في اللاّنهاية أيضاً:
سعدَ الضريرُ فليسَ دونَ خيالِهِأبداً حدودٌ جمةٌ وقيودُ
أما حسن التناول فلعل النجفي من أبرز شعراء عصرنا قدرة على اخراج شعره وتخليصه من الضعف وتنقيحه ليجيء معبّراً بكفاية عن الفكرة التي يتناولها. يقول مفتخراً بنضاله ونضال أخيه:
سجنت وقلبي في العلا سجنوا أخيوآمل في العلياء أن يسجنوا الأبنا
إذا لم نورّثْ تاجَ مجدٍ وسؤددِلأبنائنا طرّاً نورثهم سجنا
والبيتان من أفضل ما قيل أو يقال في الفخر، على بساطة التراكيب فهما ووضوح الصوغ، وعمق الفكرة، حسب آراء بعض النقاد.
لم يكن النجفي ضيق الأفق، فلم يقتصر شعره شأن كثير من شعراء العصر على موضوعات محدودة لا يتعداها، بل كان الكون كله مسرحاً لتجاربه الشعرية وفي ذلك دليل على اقتداره، وغنى مخيلته، وتمكنه الشعري، فقد شملت موضوعاته الوصف والحكمة والإنسانيات والاجتماعات والنقد والفكاهة، فهو في الوصف مبدع دقيق الملاحظة، يقول في وصف ضفدعة :
مغنيتي في الليل ضفدعة جذلىتَغبُّ الطلى ماء فتغدو به ثملى
من الماء في فيها اصطفت وتراً لهافتعزف لحناً بالمياه قد ابتلا
وهو قليل الإختفاء بالصور البيانية في وصفه وحكمه، مقتصد فيها إلى أبعد الحدود، لأنه يؤمن أن الشعر فكرة قبل أن يكون صنعة، لكنه يجري أحياناً وراء الفكرة، ويهمل عناصر الفن الأخرى حتى يقع في عيوب النثرية، ولكن من المفيد هنا أن نذكر ما قال عنه الأديب الكبير عباس محمود العقاد أنه أشهر شعراء العربية وكتب عنه مخطوطاً يقول في أثنائه: «لا يكفي أن يدرسَ الصافي أديبٌ واحدٌ، بل يجبُ أن يدرسَه مائةُ أديبٍ لسعةِ آفاقه الشعرية».
الصافي النجفي مع الحبِّ والمرأة
لم يتزوج الصافي وعاش عازباً. وتعلق في دمشق بحب فتاة تدعى «الست سامية» لكنه اكتفى بنظم قصيدة جميلة بحقها ولم يتقد بخطوبتها كما توقعت :
خلقت حبيبتي لما خلقناففيم أتيتني بعد الشبابِ
لقد كنّا نتيهُ بقفرِ حبٍّظماء لا نعب سوى السرابِ
فليس اليوم يروي منك شوقيولو أني شربتُك كالشرابِ
عرفتكِ بالضمير ولم يَبنْ ليخيالُك في ملامحه العذابِ
ولما ان رأيتكِ قلت شمسأضاءت لي وكانت في غيابِ
كأنا زورقانِ قد التقيناهوالِكَ في مصارعة العبابِ
تماسكنا حناناً واتحدناأقارب نلتقي بعد اغترابِ
تلاقينا وقد ولّى شبابيفارجع لي اللقا عهد الشبابِ
شباب جل عن نزق وطيشفما تخشى العواقب في الحسابِ
سيحسدنا الشباب على هواناويدرس عندنا فن التصابي
ثم تعلق بماري الراهبة الجميلة، وكان يلتقيها في بيت أهلها وهي تهم بدخول الدير لأنها منذورة :
قالت سأنأى عن الدنيا بصومعةقلت اجعليها بحق اللّه لاثنينِ
فهل تضيق بدنيا الحب صومعةتحوي مليكين بل تحوي ملاكينِ
ما نحن لما اتحدنا بالصفات سوىروح وأن حسبت في العدِّ روحينِ
روح من الملأ الأعلى قد انقسمتبين العراق وبين الشام نصفينِ
فهل توحدنا دار تكون لناكالقشر يجمع في أحشاه لبينِ
كلاهما لاجئ في قلب صاحبهمن عالم الناس أو من عالم الشينِ
وهل تضيق بدين اللّه صومعةعن ضم حرينِ بل للّه عبدينِ
لا غرو إذ كلنا للّه منقطعأن ضمنا اللّه منه تحت جنحينِ
اللّه ثالثنا في جوف معبدناولا أقول إلهي ثالث اثنينِ
وله هذان البيتان في الحب والمرأة :
تمنيتُ من خدّي حبيبيَ قبلةًوما خدّه الوضّاء غيرُ شعاعِ
فجادَ بها لكن بوقتِ وداعهِفيا ليتَ كلّ العمرِ وقتَ وداعِ
وهكذا كان شاعرنا الصافي ينظم أبياتاً جميلة في المرأة في فترات متقطعة من حياته، ولكنه في نهاية المطاف ترك الدنيا أعزب، ويقول الأستاذ الخليلي في أسباب عدم زواجه: والشيء الذي أنا متأكد منه أو قل شبه متأكد على الأقل إنّه كان في كل حبه خائباً وإني لأستبعد أن يكون حبّ المرأة له حباً متبادلاً من ناحية العاطفة الجنسية وإنّما هو حب إعجاب من المرأة بشعره ورقته وإكباره واحترامه ذلك لأن الصافي لم يكن يعني بهندامه وملبوسه وبالمسائل المستحدثة «الأتكيت المألوف» في المجتمع ثم هو لم يكن من الجمال الذي يجذب امرأة حسناء لها نضارة الوجه وأناقة الملبس وحسنة السليقة والذوق كـ «سامية» التي قال فيها قصيدته البائية، وقد بالغ الصافي في ذكر دمامة وجهه وقبح صورته كما فعل قبله الشاعر الحطيئة، حتى قال في ذلك تهكماً :
لذاك تبدو لعينيالمرآة بعض الخصومِ
إني لأرثي لعينترنو لوجهي الذميمِ
لو كان وجهي بكفيالقيته في الجحيمِ
أبيع جسمي بدينلو صح بيع الجسومِ
صحيح أنه قد بالغ في دمامة وجهه الذي يشبه كثيراً وجه الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي كأنهما توأمان ولكنه لم يبالغ في إهماله لمظهره حين قال:
أنتم نظرتم ظاهري فضحكتموونظرتُ باطنَكم فعدتُ ضحوكا
فلنبقَ نضحكُ لستُ قطُ بظاهريأهتمُ إن يكُ بالياً مهتوكا
كلاّ ولستم تحفلونَ بباطنٍإن كانَ باطنُكم غدا مهتوكا
وفي مذكرات أكرم زعيتر أنّ الصافي نشر مقالاً في جريدة الجزيرة الدمشقية، حول المرأة التي يريدها، فعدد الشروط، وقال:
«على أن لا تطلب منّي مالاً، ولا جمالاً، ولا كمالاً، لأني لا أطلب شيئاً منها، وأن لا تطلب منّي صحة لأنني مصاب بضعف في القلب، وتضخم في الكبد ومرض في الكلية ـ هو داء الرمل ـ وضعف الأعصاب، والتهاب الحنجرة وغيرها...».
نهاية المطاف
للشاعر أحمد الصافي النجفي عشرة دواوين مطبوعة، وهي: الأمواج ـ الأغوار ـ التيار ـ الحان اللهيب ـ هواجس ـ حصاد السجن ـ شرر ـ اللفحات ـ الشلال ـ أشعة ملونة ـ وترجمة لرباعيات الخيّام، وله ترجمة ممتازة من الشعر الفارسي باسم (صفحات من الأدب الفارسي) وكتاب آخر باسم (هزل وفكاهة) بعيد عن الشعر.
استأجر في بيروت شقة صغيرة، وإلى جواره سيدة كبيرة السن تسكن مع زوجها فكانت تعتني بالشاعر احتراماً لسنه وحين شبت الحرب الأهلية أُصيب برصاص قناس فسقط على وجهه وكاد الموت يدركه لولا عناية اللّه سبحانه وتعالى نقل للمستشفى وأحيط بعناية فائقة ثم أخذ إلى بغداد للعلاج، في يوم 9/شباط/1976 م، واستقبله عدد من الشعراء بالشعر الجميل، كان من بينهم الدكتور الشيخ أحمد الوائلي الذي أتحفهُ بقصيدة رائعة طويلة نقتطفُ منها هذه الأبيات:
يا عودَ جرحِكَ لحن بالعبيرِ نديفخلِ جرحَكَ يشدو في ذرى بلدي
فربَّ جرحٍ على أنغامهِ سكرتْدنيا وما زالَ صدّاحاً إلى الأبدِ
يابن الفراتِ لقد تاقَ الفراتُ إلىلحنٍ عن الشّطِ والناعورِ مبتعدِ
غنّى للبنانَ فاخضرّتْ شواهقُهُولفّع السفحَ في زاهٍ من البردِ
يا أيها العائدُ المجروحُ نزَّ لهُبالقلبِ جرحٌ وجرحٌ نزَّ بالجسدِ
عولج في مدينة الطب ببغداد، وليقضي دور النقاهة فيها، وبعد عام، أي في 27/حزيران/ 1977 لفظ أنفاسه الأخيرة في ثرى وطنه وشيع تشييعاً فخماً ودفن في مدينة النجف الأشرف حيث مسقط رأسه عند مثوى أميرالمؤمنين الإمام علي (ع).
الهوامش
1. أصل الرباعية باللغة الفارسية :
افسوس كه نامه جوانى طى شدوين تازه بهار شادمانى دى شد
آن مر طرب كه نام او بود شبابصد حيف، ندانم كه كى آمد كى شد
2. مخذم: من أسماء السيف، والخَذْم: سرعة القطع. خَذَمَهُ يَخْذِمُه خَذْماً أي قطعه، وبه سمّي السيفُ مخذماً. لسان العرب لابن منظور.
المصادر
1 ـ كما عرفتهم «المجلد الثالث» / للأستاذ جعفر الخليلي.
2 ـ مجلة القافلة السعودية / العدد الثالث: 1996 م.
3 ـ إلى ولدي / عباس شبّر.
4 ـ ديوان الدكتور الشيخ أحمد الوائلي.