شوقي ضيف و90 عاماً في خدمة الأدب العربي
ندوة بالقاهرة تحتفي به وتلقي الضوء على مشروعه الأدبي المتنوع

بقلم: عبير درويش:
ــــــــــ

أقام المجلس الأعلى للثقافة مؤخراً احتفالية خاصة بالدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورئيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، شاركت فيها نخبة من أساتذة الأدب العربي والدراسات الأدبية من الجامعات المصرية والعربية وافتتحها وزير الثقافة المصري فاروق حسني في إطار تكريم رواد الأدب العربي والدراسات الإسلامية.
يعد الدكتور شوقي ضيف (90 عاماً) من أكثر علماء العربية المعاصرين إحاطة بالثقافة العربية الإسلامية، فهو عالم موسوعي بمعنى الكلمة، لم يدع فرعاً من فروع الثقافة العربية إلا وكانت له فيه مشاركة جليلة حتى كأنه لم يتخصص إلا فيه، أرخ للأدب العربي وللبلاغة ولعلم النحو وكتب في فنون الأدب والنقد والترجمة الشخصية والرحلات إلى جانب دراساته عن الفن ومذاهبه في الشعر والنثر، وحقق العديد من كتب التراث، ونشر أبحاثاً أخرى كثيرة يستعصي حصرها حتى أنه يعد بحق أغزر المؤلفين إنتاجاً في عصرنا الحاضر?
شوقي المؤرخ
يختلف العلماء والدارسون في تقويمهم لمشروع شوقي ضيف الضخم في وضع تاريخ شامل كامل للأدب العربي في مجموعة من الأجزاء تبدأ بالعصر الجاهلي وتنتهي بالعصور المتأخرة والحديثة، إلا أنهم يجمعون على أهميته المدرسية وعلى علو رتبته في المكتبة العربية، فقد بدأ شوقي ضيف بعد تخرجه في الجامعة عام 1935 بدراسات تمهد لتاريخ شامل للأدب العربي، ويدرس الشعر في بيئات مكة والمدينة، وتوسع في دراسة الشعر الأموي والأدب في بيئاته الكبرى العراقية والشامية والمصرية والأندلسية، وانتهى في الخمسينات والستينات إلى دراسة الأدب العربي الحديث والمعاصر في مصر وأفرد أعمالاً لأعلام هذا الأدب فحرر كتباً عن محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وعباس محمود العقاد.
وقد رصد شوقي ضيف ـ في الأربعينات ـ التطور التاريخي للشعر والنثر العربيين منذ بواكيرها الأولى حتى العصر الحديث في عمليه «الفن ومذاهبه في الشعر العربي» و«الفن ومذاهبه في النثر العربي» مستلهماً المنهج التاريخي عند أستاذه طه حسين، كما استلهم تاريخ جورج سانتسبري لتطور الذوق الأدبي الأوروبي، وتبدي هذا الاستلهام ـ كما يشير الدكتور عبد المنعم تليمه ـ في مصطلحاته الثلاثة «الصنعة والتصنع والتصنيع»، واحتشد شوقي ضيف في العقود الأخيرة من القرن العشرين لوضع تاريخ شامل كامل للأدب العربي.
ويشير الدكتور عبد الرحيم الكردي في بحثه عن «شوقي ضيف وتاريخ الأدب» إلى منهج شوقي في النظر إلى تاريخ الأدب الذي يجمع بين اتجاهين: الأول النظر إلى تاريخ الأدب بوصفه علماً كما نظر إليه طه حسين وبروكلمان، والثاني تقسيم الأدب إلى عصور كما فهمه القدماء وكما فهمه الرافعي وجرجي زيدان وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين، فهو يرى أن هدف تاريخ الأدب هو هدف بحثي نقدي كما يرى طه حسين، وفي الوقت نفسه هدف تعليمي كما يرى أنصار القديم، أما تفسير شوقي ضيف للتاريخ الأدبي فيعتمد على تأثره بالمدرسة الطبيعية التي اتخذت من منهج تين أساساً لتفسير التطور الأدبي، ويعتمد على أن هناك قوانين ثلاثة يخضع لها الأدب في كل أمة وهي الجنس والزمان والمكان، كما يصرح بذلك في مقدمته لكتابه عن العصر الجاهلي، وان كان يرى انه قد تأثر أيضاً بمنهج سانت بيف الذي شغف به أستاذه طه حسين، وبمنهج برونتير، وبالمنهج الإنساني السيكولوجي، لكن المدقق في كتب شوقي ضيف التاريخية يلاحظ انه قد استخدم المنهج الأول بصورة أساسية ولم يستخدم المناهج الثلاثة الأخرى إلا بوصفها أدوات، حيث يربط بين البيئة والحالة السياسية والاجتماعية والأدب ربطاً علمياً، ويربط بين الحدود التاريخية وحدود الأطوار الأدبية، وبواسطة هذا المنهج أيضاً يفسر الإبداعات الذاتية للشعراء.
وتذكر الدكتورة مي يوسف خليف بعداً آخر في موسوعة الأدب العربي التي نهض عليها شوقي ضيف وهي تلك النظرة الموضوعية والدقة المنهجية والعمق في طرق الخبر التاريخي بعد نقده وتمحيصه وتوثيقه من خلال التوقف عند مصادره واستبعاد ما حوله من شبهات، ثم ينتقل من التاريخ الى الجغرافيا ليستعرض توصيفاً للجزيرة العربية وتاريخها، ثم يتطرق إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأديان، ثم يتوقف عند اللغة العربية وتاريخها وسيادة اللهجة القرشسية، ثم يأتي دور المحقق والعالم المحاور والباحث المناقش لأطروحات الآخرين، مما يجعل منهج شوقي ضيف هو منهج شوامخ كبار أعلام تراثنا العربي، الذي يتجاوزون منطق التخصص إلى مجال البحث الموسوعي?
ويلفت الدكتور أشرف علي دعدور النظر إلى بعد آخر من منهج شوقي ضيف في التاريخ للأدب، وهو إعادة النظر في ما كتبه من أحكام إذا ظهر له ما يجعله يغير وجهة نظره، وقد بدا هذا في ما كتبه عن الأدب الأندلسي في كتابيه «الفن ومذاهبه في الشعر العربي»، ثم «الفن ومذاهبه في النثر العربي» عامي 1943 و1946، ثم أعاد النظر في حكمه على هذا الأدب الذي رآه وقتها لا يختلف عن الصورة المشرقية في الشعر والنثر معاً وذلك في كتابه عن «الأدب الأندلسي» الذي صدر عام 1989، بعد أن أماط اللثام عن الوجه المشرق للأدب الأندلسي بعد تحقيقه لكتاب «المغرب في حلى المغرب» لابن سعيد عام 1953، فقد أعطى صورة كلية متكاملة عن الأندلس وحياتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، وما كان فيها من حضارة وثقافة وعلوم وفلسفات وتاريخ، فضلا عن التاريخ لحياة الشعر والشعراء والنثر والكتاب.
شوقي والنحو العربي
كان لاكتشاف الدكتور ضيف لمخطوط كتاب «الرد على النحاة» لابن مضاء القرطبي وتحقيقه له عام 1947، وفيه ثورة عنيفة على النحو العربي لما وصل إليه حاله في القرن السادس الهجري، بداية عمل عميق في دراسة تاريخ النحو العربي ونظرياته ونقدها، فقد شغل شوقي ضيف بالمدارس النحوية وكتب مؤلفاً تتبع فيه الدرس النحوي من بداياته المبكرة قبل الخليل بن أحمد وسيبويه، ورسم ملامح المدارس النحوية في البصرة والكوفة ومصر والأندلس، واشرف شوقي ضيف على رسائل جامعية كثيرة في النحو والصرف أفادت المكتبة العربية كثيراً، واهتم شوقي بقضية تيسير النحو التعليمي وقضية تعليم العربية وتقريبها للناشئة وزاد هذا الاهتمام ـ كما يشير الدكتور محمود فهمي حجازي في بحثه ـ منذ انتخابه عام 1976 عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة وظهرت له أعمال كثيرة في هذا الاتجاه منها «تجديد النحو» عام 1982، و«تيسيرات لغوية» 1986، و «الفصحى المعاصرة»، وقدم إلى لجنة الأصول بالمجمع مشروع تيسير تعليم النحو فأقره المجمع.
كما كانت له مئات الاقتراحات بشأن الكلمات والألفاظ الجديدة، وكان منهجه في هذا الإطار ينطلق من التراث تأريخاً وتأصلاً ومتابعة لجذور الموضوع في سياقه الزمني، ثم يقوم بعد ذلك بإعادة النظر في الموضوع مع الاهتمام بالتصنيف الجديد والتنسيق الواضح والتركيز على الجوانب المهمة والأسس العامة، وهو المنهج الذي اتبعه في بحوثه في تيسير النحو، فهو يتابع الجهود في التراث ثم يحدد الملامح الجديدة، فيقدم اقتراحاً يقوم على إعادة تنسيق أبواب النحو، وإلغاء الإعراب التقديري والمحلي وعدم الاهتمام بما لا يفيد الناشئة في صحة النطق وسلامة الكتابة، لكنه اهتم بدراسة مخارج الحروف وكيفية النطق الصحيح للكلمة مستفيداً من علم التجويد، كل هذا في كتاب لا يزيد عن 215 صفحة فقط.
شوقي الناقد
ويوضح الدكتور إبراهيم عبد الرحمن في دراسته عن منهج شوقي ضيف في دراسة الشعر، أثر صحبة ضيف الطويلة لأستاذه طه حسين وتفهمه لنظريته النقدية، ليصيغ هو صياغة جديدة مختلفة إلى حد كبير عن تجربة طه حسين أو نالينو?، حيث يؤسس فكرة كتابه «الفن ومذاهبه في الشعر العربي» في أن الشعر وان كان في الأصل موهبة فإنها لا تلبث أن تتحول عند صاحبها إلى ممارسة ودراسة طويلة لتقاليد ومصطلحات موروثة في تاريخ الفن، مما يجعل من الشعر صناعة تخضع مثل غيرها من الصناعات لظروف البيئة وحاجات المجتمع وتتأثر بما تحققه من ثقافة وتحضر، ولهذا رصد في كتابه التطور الفني والموضوعي الذي حققته الصيغة الشعرية الجاهلية تحت تأثير التطورات الحضارية والثقافية، بالإضافة إلى طبيعة الشاعر نفسه ومزاجه.
ويرد ما يسميه بظاهرة «التصنيع» بمعنى تكلف الشعراء وقصدهم الى تعقيد اشعارهم الى غلبة الترف على الحياة الاجتماعية وتعقد الحضارة في القرن الثالث الهجري التي لا تأتي بجديد إلا اهتماماً بالشكليات وتعقيداً في شؤون الحياة.
أما منهج ضيف النقدي لفن المسرح فقد كان عنوان بحث الدكتور سامي سليمان الذي أكد فيه على تبني ضيف للمنهج التكاملي في النقد الأدبي، حيث يرى ضرورة أن يعتبر الناقد من كل منهج نقدي بعداً واحداً يختص بدرس جانب من جوانب النص أو مبدعه، ولهذا كان يقوم على تحليل مكونات العمل ـ النص إلى عناصره المختلفة من ناحية، وفهم العمل النصي في علاقته بمجتمعه وتاريخه من ناحية ثانية، وفهم العمل النصي في علاقته بمبدعه من ناحية ثالثة، ثم تقييم العمل الفني بطريقة غير مباشرة من ناحية رابعة، ولعملية التقييم هذه نمطان عند ضيف? أولهما أحكام نقدية عامة وموجزة، وثانيهما صيغ أو مقولات نقدية يسعى الناقد إلى إرسائها في سياق التلقي ومنها ما صاغه من مقولة ترى أن الكاتب المسرحي ينبغي أن تكون لديه نظرات بعينها متناسقة في الحياة تأخذ شكل تأملات وخبرات أو تجارب عميقة، وجعل ضيف من امتلاك الكاتب لهذه الرؤية وتجسيدها في عمله المسرحي وسيلة إلى بقاء العمل وقوة تأثيره من ناحية، وضم مختلف العناصر الجمالية والتشكيلية من ناحية ثانية، بينما يؤدي افتقاده إلى تفكك حوادث المسرحية أو بساطة المضمون الذي تقدمه للمتلقي?
البلاغة والإسلاميات
يؤكد الدكتور عبيد بلبع في بحثه المعنون «شوقي ضيف والدرس البلاغي العربي? على ان البلاغة كانت أقل حظاً في مؤلفات ضيف، لكن كتبه الثلاثة الفن ومذاهبه في الشعر العربي 1943، والفن ومذاهبه في النثر العربي 1946، وكتاب البلاغة تطور وتاريخ 1965، تمثل رؤية ضيف البلاغية بعد أن تتبع الظاهرة البلاغية في الشعر والنثر في عصور الأدب العربي في نشأتها وتطورها، ثم ينبه على موطن الإبداع الفكري وإنتاج المعرفة في النظرية البلاغية مقابلا بالتنبيه على مواضع القصور والجمود الفكري فيها ومناقشة أسباب ذلك?
وركز الدكتور محمود مكي في كلمته على إسلاميات شوقي ضيف ودراساته المتنوعة في هذا المجال، فقد تأثر ضيف في نشأته الأولى في قريته التابعة لمحافظة دمياط بوالده الذي كان شيخاً أزهرياً، مما جعله يحفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة من عمره، وإن كان الجهد الأكبر الذي استغرق حياته بعد تخرجه من الجامعة موجهاً لدراسة الأدب وتاريخه، فقد ظل اهتمامه بالقرآن الكريم وتفسيره حياً دائماً لاسيما انه قام بتدريس التفسير ومذاهب المسلمين فيه منذ أوائل الخمسينيات من هذا القرن ثم آتى هذا الاهتمام ثمراته في عدد من الكتب يمكن تصنيفها في ثلاثة مجالات؛ الأول في تفسير القرآن الكريم، وله فيه كتابان رئيسيان هما: الأول «تفسير سورة الرحمن وثماني سور قصار»، ويشرح في مقدمة الكتاب منهجه في التفسير، وهو تفسير القرآن بالقرآن متبعاً في ذلك منهج ابن تيمية وابن القيم الجوزية والإمام محمد عبده والشيخ محمد عبد الله دراز? ويركز في تفسيره للسور القصار على عرض المبادئ التي ترتكز عليها العقيدة الإسلامية، وثاني كتاب هو «الوجيز في التفسير» ويعتبر تفسيراً كاملا لكتاب الله توخى فيه الإيجاز مع الانتفاع بأهم التفاسير السابقة مثل كتب الطبري والزمخشري والفخر الرازي والقرطبي وابن كثير ومن المحدثين محمد عبده ومحمد الطاهر بن عاشور، ويتسم أسلوبه بالوضوح والسهولة، متجنباً ما حفلت به كتب التفسير المطولة من مباحث معقدة في البلاغة والقراءات وأسباب النزول لكن هذا لم يعن التخلي عن الإفادة بها وتحرير المراد في ضوء مباحثها التي تقود إلى دقة الفهم، وسحب من التفسير الإسرائيليات في موضوع قصص الأنبياء وما قاله غلاة التشيع والتصوف، فكان أسلوبه يتسم بالفحص والتحري في الانتقاء من مصادر التفسير الكبرى والوصول إلى لفتات ورؤى لم يسبق إليها?
أما المجال الثاني فكان تحقيقه لكتابين هامين من كتب التراث الإسلامي وهما كتاب «السبعة في القراءات» لأبي بكر ابن مجاهد (ت 324) والذي يعد من أقدم كتب القراءات وأجلها، وقدم له شوقي بمقدمة عن المؤلف ومنهجه في اختيار ما ارتضاه من القراءات ووصف النسخ المخطوطة ومنهجه في التحقيق، والكتاب الآخر هو كتاب «الدرر في اختصار المغازي والسير» لأبي عمر بن عبد البر النمري المتوفى 463هـ والذي يعد من أكبر فقهاء الأندلس، وترجع أهمية كتابه هذا إلى الاختصار الذي قصد إليه نافياً ومستبعداً كثيراً مما لحق بسيرة ابن اسحاق من روايات ضعيفة ومن شعر مشكوك في صحته.
أما المجال الثالث فهو مؤلفاته في الدراسات الإسلامية والتي تعد ثمرة دراساته في القرآن والحديث الشريف، وأهمها كتاب عالمية الإسلام»، وكتاب «الحضارة الإسلامية من القرآن والسنة»، وأخيراً كتاب «محمد خاتم المرسلين» والذي يقدم فيه رؤية جديدة لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــ ــ
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط»، في 12/7/2001م .