أثر العربية في الشعر الفارسي
أثر العربية في الشعر الفارسي اللغة كسائر مظاهر الحياة تعمل فيها الحوادث و الطواريء فتعطيها شيئا" و تأخذ منها شيئاً، فقد تتغير مبانيها و صورها علي مرور الزمان و كثرة العوامل فإذا بها لغة أخري قد لا تشبه أصلها في شيء و لا يجمعها معها لفظ ،و ذلك إذا ما تهيأت لها أسباب التغيير و التبديل و التجديد، و هذا ما طرأ علي جميع اللغات البشرية عند مرورها بعوارض زمنية عملت فيها عملها ، و من هذه اللغات كانت اللغة الاءيرانية . لقد مرت اللغة الاءيرانية بثلاثة أدوار: دور اللهجات القديمة، و دور اللهجات الوسطي، و دور اللهجات الحديثة و الحاضرة، و بالطبع كانت هذه الادوار الثلاثة بمثابة حلقات ربط الزمن بعضها ببعض، و أبعدتها الحوادث و الطواريء و التفاعل في سلسلة طويلة لم يعد لا´خرها خبر عن أولها إلا الشيء اليسير و النزر القليل . و حين دخل الاءسلام بلاد إيران كانت اللغة الاءيرانية الشائعة هي اللغة " البهلوية " و هي من أهم اللهجات الاءيرانية الوسطي التي كان قد تم بها تسجيل الكثير من الا´ثار الزرادشتية و تعاليمها، كما تم بها تسجيل الكثير من الا´ثار الزرادشتية و تعاليمها، كما تم نقل كتاب " الافستا" إلي لغتها، و يدل تاريخ اللهجات الاءيرانية علي أن اللغة الدريّة و هي اللغة الفارسية الحديثة للدور الثالث كانت معروفة في " المدائن " عند دخول الاءسلام إليها، و هي امتداد للغة البهلوية و أحد مظاهر التفاعل بين اللهجات المتقدمة، و اعتبر الجنرال "سايكس " في كتابه " تاريخ إيران " أن دخول اللغة العربية في اللغة الفارسية نهاية لدور اللغة البهلوية ،و زاد علي ذلك أن اعتبرها من اللغات المهجورة . و امتدت الفتوحات الاءسلامية إلي بلاد إيران، و ظهر الاءسلام في صورته العربية لغة و طبيعة و حكما"، و عرض الاءسلام علي السكان الاءيرانيين الدخول إليه، فكان ذلك عاملا" في دخول اللغة العربية في صلب اللغة الفارسية الحديثة و تغلغلها فيها . و في تلك الادوار كان الاءيرانيون يسعون للاءحاطة باللغة العربية لدواع مختلفة، و كان لطول مدة السيطرة العربية و انقطاع الفرس عن الاتصال بماضيهم، و ما أصاب كتبهم القديمة من إحراق و تلف أن أدي كله إلي تعزيز مدي عمل اللغة العربية في اللغة الفارسية، حتي خرجت بها مخرجا" آخر، ولكنه مخرج لميتجاوز حدود اللفظ، لان دخول الكلمات العربية إلي الفارسية لم يجر علي أساس الحاجة إلي المعاني كما كان قد حصل من طلب العربية للفارسية و دخول الكلمات الفارسية في العربية ،فحين تستعمل الفارسية كلمة " محبة " و " جفا " و " عفو" و " عطا" و غير ذلك من الكلمات التوددية أو المعاكسة للتودد من اللغة العربية مثلا"، فلا تستعملها افتقارا" للمعني كما استعملت العربية كلمات: " السندس " و " الياقوت " و "النجرس " و "الزئبق " و "الاءستبرق "، و إنما قد جري استعمالها لدواع حضارية و رغبة بالاقتداء بذلك النحو الذي أضاع عليها كيانها، فحملها علي تقبل هذا الجيش الجرار من الكلمات العربية . علي أن العامل الاساسي لنزوع الاءيرانيين إلي العربية هو دخولهم دين الاءسلام و هذا ما سنعرضه... جاء الاءسلام إلي إيران و جميع طقوسه و تعاليمه و نصوصه بالعربية، و كان التبشير بالاءسلام و باللغة العربية هو الغاية الاولي و الاخيرة من الفتوحات الاءسلامية . يقول البروفيسور " إدوارد براون " :إن الا´ثار الاءيرانية و حضارتها التاريخية تعرضت مرتين لحملتين أحدثتا فيها فجوتين عميقتين ،أولاهما: الحملة التي قام بها الاءسكندر علي إيران و التي انتهت بزوال "البارتيين " و قيام الساسانيين في عهد بلغ مداه خمسمائة و خمسين عاما"، أما ثانيتهما: فهي الحملة التي قام بها الاءسلام علي إيران ،و التي لم ينته بها عهد الساسانيين فحسب، و إنما أطاحت بالديانة الزرادشتية، و علي أن مدة هذه الفجوة كانت أقصر من الفجوة الاولي، ولكن تأثير الاءسلام كان عميقا" في نفوس الاءيرانيين و في أفكارهم و لغتهم ،لان الحضارة اليونانية و طابعها علي ما رأي "نولدكه "( Neldke )لم تستطع أن تتجاوز المظاهر و الشكل و القشور من حياة الاءيرانيين، أما الشريعة الاءسلامية فقد تغلغلت في ذلك الحين بشكل ملحوظ في أيران . و يقول " شبلي نعماني " في "شعر العجم ": إن الحقيقة هي أن الاءسلام يشيع و ينتشر في أية أمة، يشغل الدين منها كل فراغها، و يحتل جميع نفوسها، بحيث لا يبقي مجال للتفكير في شيء آخر من الشؤون المدنية و الاجتماعية غير الدين . و يقول " ابن خلدون ": إن استعمال اللسان العربي صار من شعائر الاءسلام، وصار هذا اللسان لسان الشعوب و الاقوام في جميع المدن و الامصار، و هذا ما دعا المدركين من المسلمين الاءيرانيين أن يمنحوا الديانة الاءسلامية كل ما يملكون من جهود للتفقه بها، و دراسة فلسفتها و أهدافها ،و الحدب علي القرآن الكريم و تتبع تفاسيره، و ما تفيض به كتب السيرة، و كتب الحديث و الاخبار و الرواية، و لما كانت مثل هذه العناية بالدين لا تتم علي وجوهها الكاملة من غير الاءحاطة باللغة العربية و قواعدها، فقد أقبل الكثير من الاءيرانيين و أولادهم و أحفادهم من الداخلين في الاءسلام مباشرة أو من الموالي علي دراسة اللغة العربية و النصوص الدينية و متطلبات البلاغة، حتي لقد نبغ فيهم أئمة و علماء: كأبي حنيفة النعمان بن ثابت في الفقه، و كالبخاري في الحديث ،و الكسائي و سيبويه والفراء و الاخفش في النحو، و كأبي عبيدة معمر بن المثني في اللغة و الادب و غيرهم ممن تصدوا لدراسة الدين و الادب في القرنين الاول و الثاني: أما الذين نبغوا بعد ذلك من الموالي أصلا" أو الداخلين في الاءسلام مباشرة أو انتقالا" عن آبائهم، فقد كانوا كثيرين جدا"، و عن طريق هؤلاء و أمثالهم انتقلت نصوص الديانة و شروحها و تفاسيرها و إعرابها و قواعد اللغة و عروض الشعر إلي اللغة و الفارسية، فكان لها شأنها في تطوير اللغة الدريّة الفارسية، و نسيان أو تناسي عدد غير قليل من الكلمات الفارسية، بل اختفائها نهائيا" من القواميس الفارسية و حلول الكلمات العربية محلها، و كان الاهتمام باللغة العربية من الاءيرانيين قد بلغ القمة منذ القرن الثاني الهجري، فما بعد حتي ألفت عدة قواميس للغة العربية باللغة الفارسية .لقد وقع اختلاف كبير عند مؤرخي الادب عن الشعر الاءيراني ،و عما إذا كان للشعر وجود في اللغة البهلوية قبل دخول الاءسلام إلي إيران .و علي الرغم من هذا الاختلاف، فإن الرأي يكاد أن يكون واحدأ في أن حضارة كحضارة إيران و فنونا" كهذه الفنون المشهورة، منذ أول تاريخ إيران حتي اليوم لتفرض علي الباحثين الاءقرار بوجود الشعر، و الشعر الجذاب الباهر، ولكن أين هو هذا الشعر ؟ تناولت الدراسة قسم الاناشيد من " الافستا " باعتبارها أقرب إلي مفاهيم الشعر، وقد لقيت هذه الدراسة صعوبة كبري بالنظر لاختلاف هذه الاناشيد من حيث الصيغة و التهجئة، و بالنظر لما دخل علي هذه الاناشيد من عبارات و كلمات يظن أنها أضيفت بعد زمن طويل إلي هذه الاناشيد ،كشروح و توضيحات، ولكنها ما لبثت أن صارت أصلا" ،و قد أحدث تفريقها و فصلها فيما بعد عن الاصل الصحيح مشاكل عويصة، و كيفما كان الامر فقد تصدي عدد كبير من علماء الاستشراق إلي دراسة الشعر الفارسي القديم من " الافستا" . علي أنه يمكن اعتبار بداية القرن الثالث الهجري كنقطة بداية لتاريخ الشعر الفارسي كما نعرفه، و يقال إن أول قصيدة نظمت في الفارسية الحديثة كانت قصيدة "عباس المروزي " التي ألقاها أمام المأمون ،و مع هذا فإن " أبا حفص الحكيم السندي " كان أول من نظم بالفارسية في القرن الاول الهجري، و يبدو أن تخطي التاريخ " لابي حفص " و اعتبار ابتداء تاريخ الشعر من " العباس المروزي " لم يكن إلا لان العروض العربي الذي لازمته الفارسية في قول الشعر الفارسي لم يظهر للوجود إلا في القرن الثالث الهجري، و بعد أن عمت فيه اللغة الفارسية الحديثة جميع إيران ،بعد أن كانت مقتصرة علي الجهات الشرقية منها وحدها، و للشعر الفارسي الحديث ثلاثة أدوار هي : الدور الاول: يبتديء من " حنظلة البادغيسي " و ينتهي بـ " نظامي " . الدور الثاني: و هو الدور المتوسط ،و يبتديء من "كمال إسماعيل "، و ينتهي بـ " جامي " . الدور الثالث: و هو الاخير ،و يبتديء بـ " فغاني "، و ينتهي بـ " أبي طالب حكيم " . و قد تغلب علي هذه الادوار التي تكامل امتزاج العربية فيها بالفارسية طبيعة الشعر العربي من حيث الموسيقي أو الوزن، و من حيث البديع، أما من حيث الوزن فكل البحور في الشعر الفارسي، باستثناء البعض القليل منها كبحر الرباعيات مثلا"، عربية اتخذها الشعر الفارسي طريقة للاداء، و كان عمود الشعر العربي من حيث الطريقة واحدا" لا يكاد يحيد عن نمط القصيدة، قبل أن يظهر الموشح، فجاري الشعر الفارسي الشعر العربي في ذلك أول الامر، ثم كسر عموده و احدث نظم المقاطع و الرباعيات و المثنوي و غيره، كما أحدث الشعر الفارسي في طريقة القافية العربية تغييرات كثيرة من حيث تعدد القوافي في المصاريع أو القصيدة أو سجعة ما قبل القافية و غير ذلك من التصرفات الفنية، و مع ذلك كله فإن المبني العام من حيث الموسيقي و الوزن في الشعر الفارسي لاينبغي أن يعتبر غير عربي . و لم تكن البحور وحدها التي أخذها الشعر الفارسي من العربية نتيجة للعوامل التي سردناها بخصوص دخول اللغة العربية في صلب اللغة الفارسية، و إنما كان للبديع الذي اتصف به الشعر العربي أكثر من أي شعر آخر شأناً في الشعر الفارسي الحديث، و هذا لا يعني أن اللغة الفارسية بطبيعتها خلو من البديع، ذلك لانه ليس ثمة لغة تخلو من ألوان البديع المعنوي أو اللفظي الطبيعي علي قدر قابلية تلك اللغة و قدرة تعبيرها، وعلي الاخص الفارسية، فإنها غنية بالبديع المعنوي الطبيعي البعيد عن الصناعة ،و تملك الفارسية الشيء الكثير من البديع الذاتي الذي قد يظنه البعض ضربا" من الصياغة و البديع اللفظي الذي تأتي به الصناعة، بينما هو بديع ذاتي تختص به الفارسية كما تختص به العربية، و المقصود بالشأن الذي أحدثته اللغة العربية من بديعها في الفارسية هو التفنن اللفظي و الصياغة الفنية التي تعتبر العربية فيه من أغني اللغات الحية، و قد تأثرت الفارسية بهذا البديع إلي حد كبير، حتي طفح الشعر الفارسي بألوان كثيرة من الاستعارة و الجناس و التورية و سائر ضروب البديع اللفظي و فن الصياغة . و للحقائق المذكورة و غيرها فإننا نستطيع القول بأن كلا" من الشعر العربي و الشعر الفارسي قد أعطي و أخذ، فقد أعطت الفارسية الشعر العربي عمق المعني و جمال التصوير و عمق الحكمة و اتساع الافق. و أعطت العربية الشعر الفارسي العروض و البديع و الدين بمنازعه و أفكاره . ولكن هناك حقيقة واضحة يستطيع كل متأدب، فضلا" عن الاديب ،أن يلمسها و هي أننا إذا ألقينا علي الشعر العربي و الشعر الفارسي نظرة عامة وجدنا أنفسنا أمام أدب يكاد يكون واحدا" من حيث التصوير و التشبيه و الكناية و البديع، بحيث إذا قمنا بترجمة الادبين إلي لغة أخري صعب علي من يتولي درسهما أن يفرق بينهما و يعيد كل أدب إلي أصله، و ذلك لان الاتصال بين هذين الادبين قد بلغ حدا" لم يبلغه أي اتصال بين أدبين آخرين ،بسبب تلك العوامل التي استعرضناها في هذا المجال . منقولة:www.e-resaneh.com |