شعر الحكم والأمثال فی الدیوان العربی
شعر الحكم والأمثال فی الدیوان العربی :
إیضاح ودفاع - د. شكری فیصل
إیضاح ودفاع - د. شكری فیصل
كلیة الآداب- جامعة دمشق
یؤلف شعر الأمثال والحكم بعض الثروة الشعریة العربیة.. وإذا كان الشعراء العرب یختلفون فی أغراضهم التی یخوضونها وفی أسالیبهم الفنیة التی یصطنعونها فی هذه الأغراض، فإنهم یكادون یلتقون فیما بینهم على تضمین شعرهم بعض الحكم أو بعض الأمثال كلما اقتضاهم ذلك عملهم الفنی أو انكشف لهم وجه من وجوه التعبیر.
والحق أن الأمثال والحكم كانت فیما نرى حین نعرض الشعر العربی القدیم نوعاً من التعبیر الذی یكثف شعراؤنا تجاربهم الذاتیة أو ممارساتهم الیومیة، وكانوا یعبرون بها عما یكون قد غامرهم من فكرة أو داخلهم من رأی، ینقلون ذلك إلى من حولهم فی مجتمعهم الضیق فی القبیلة، أو فی مجتمعهم المفتوح فی الأسواق والمواسم.
ولست أحب أن أنظر الآن، فی بدایة الموضوع، إلى شعر الأمثال والحكم من جهة فنیة، ولكنی أرید أن أنفذ إلى مصادره فی المجتمع العربی وفی النفس العربیة.
فهذا المجتمع العربی كان یواجه بعض الأحداث فی علاقات ما بین الأفراد أو فی علاقات ما بین القبائل.. وكان لا بد للشعراء من أن یعرضوا لهذه الأحداث بالوصف والتسجیل ولم یكن من الممكن أن تستحیل هذه الأحداث شعراً إلا إذا مرت عبر عقل الشاعر العربی وعبر عاطفته.. كانت عقله وكانت عاطفة الفنانین اللتین تشهدان تشكل هذه العملیة الشعریة، وكان وعاءها والمادة التی تمازجها، وكانا یتعاوران صیاغتها وصباغتها.. كانت عاطفة تلهب هذا العمل الشعری بعده النفسی، كما كان عقله یهبه بعده الفكری.. كانا یصطلحان معاً على إقامة هذا البناء الشعری وإخراجه للناس.
ولم یكن هذان العنصران سواء فی هذا البناء. لعله كان فی أكثر الأحایین –أكثر استجابة لنداء العاطفة وخضوعاً لها وتلوناً بها.. لأن طبیعة الشعر أن یكون فی بدایته انفعالاً، وأن یكون فی تشكله صوغاً لهذا الانفعال، وفی غایته عدوى الآخرین بهذا الانفعال ومشاركتهم فیه.
ولكن العمل الشعری لا یمكن أن یسمح بغیاب عقل الشاعر: فكرته وموقفه ونظرته وفلسفته، إن صح التعبیر، ورأیه فی الحدث، كلها تداخل الانفعال وتمازجه، وقد تنشفه.. كما أن تأملاته الذاتیة –حین یغادر الأحداث- میدان خصب لظهور بعض هذه الحكم والأمثال.
وحین ننظر فی معلقة زهیر فی الجاهلیة مثلاً نجد هذا الازدواج بین وقائع الحدث وبین التأملات فیها، بین العاطفة وبین الفكرة التی تصاحب هذه العاطفة، بین الحادثة وبین الأفكار التی رسبتها أو العاطفة التی استثارتها.. أن حدیثه عن خصومات ما بین القبائل وعن الحرب لم یخل من هذه التأملات التی صاغها على شكل حكم.. وبعد أن أفضى بكل ذات نفسه عن ذلك، بعد أن تحدث وقص ووصف وامتدح صنیع السیدین اللذین تحملا الدیات، وأنكر ما كان من صنیع "حصین بن ضمضم" الذی أبى أن یدخل فی الصلح وأثار روح الثأر مرة جدیدة –بعد أن أفضى زهیر بكل ذلك، رجع یكثف الحادثة ویقطرها فكراً أو تأملاً.. فانبجست عنده هذه الخاتمة التی استمالت فیها عاطفته مجموعة من الأفكار أو مجموعة من الأنظار.. إن التدخل العقلی فی القصیدة جاء مرتین: جاء فی عرض الحادثة مرة، ثم جاء فی هذه الخاتمة أخیراً.. وكانت الخاتمة فرصة لعبت تجاربه كلها لا فی تجربة خصومة عیسى وذبیان وحدها.. ولذلك بدأها من نقطة المركز فی الشاعر، من الذات، فتحدث عن حیاته الطویلة وافتتح هذا الحدیث بلفظة سئمت.. وعرض تجاربه التی كانت تنظر إلى المجتمع العربی وإلى تنظیم العلاقات بین القبائل على نحو هو أقرب إلى الحلم وإلى السلم وإلى الاقتداء... كما كانت تنظر إلى الإنسان العربی وإلى رسم سلوكیة خاصة له هی أدنى إلى التعقل وتقلیب السلامة.. ومن ذلك كله كانت أبیاته (الومنات) التی كانت أكثر بدایاتها: ومن.. ومن.. والتی اتخذت أسلوباً أقرب إلى الصرامة، أسلوباً یعادل صرامة الحق فیها، فكانت تتألف (بوجه عام) من أداة الشرط ومن فعل الشرط فی مقدمة البیت، ومن جواب الشرط فی خاتمة البیت، لیحكم هذه الحلقة الدائرة، ینثر خلال ذلك بعض التلاوین والتفاصیل تزین عمله الفكری وتمنحه الطابع الأسلوبی الخاص.
شعر الحكمة إذن هو هذا التكثیف الفنی لبعض الأفكار أو الأنظار أو التأملات التی كانت تخالط الشعراء فی خلال التوهج الانفعالی..
شذور من الذهب فی رمال من العاطفة.. قد تأتی شذرات وقد تتجمع على شكل عرق متصل منبث، یختفی ویغیب، إنها تأتی وجهاً آخر للحدّة العاطفیة وترجمة "عقلیة" لها.
وتتخذ هذه الحكم أشكالاً مختلفة..إنها لا تأتی عملاً عقلیاً خالصة، ولا حقائق مجردة.. وإنما تكسبها قیمتها الفنیة صیاغة محببة، حتى تظل لها –مهما یكن حظها من العقل- صفة الشعر.
وكثیراً ما نخطئ فی تقدیر شعر الحكم هذا فی أدبنا العربی، وكثیراً ما نحمل علیه دون تواصل معه وتعمق له.. إن الحكمة، فی نطاق الشعر، هی فكرة یمازجها الانفعال، ثم تكسوها الصناعة الشعریة صورة فنیة.. وعلى ذلك تتلاقى فیها عناصر الشعر جمیعاً منذ أن یبدأ تجربة إلى أن یكون فكرة وعاطفة وصیاغة.. ولكن تظل الفكرة هی الأظهر، دون أن یغیب العمل الفنی، أو یخمد التوهج العاطفی.
والأمر واضح عند زهیر فی خاتمة معلقته.. فكرته نابعة من ذات نفسه وممازجة له.. وتعبیره من هذه الفكرة لم تفارقه الصورة الأدبیة:
ومن یعص أطراف الزجاج فإنه یطیع العوالی ركبت كل لهذم
إن المتلقی أو المتذوق یظل دائماً فی نطاق الشعر.. ألم یكن من أروع الشعر قوله وهو یعرض هذه التجربة التی بدأت مع الأیام، وزادها تعاقب الأیام تعمقاً وألقاً:
رأیت المنایا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئ یعمر فیهرم
ألسنا نحتاج فی كثیر من المرات أن نسمع:
ومن یغترب یحسب عدواً صدیقه ومن لا یكرم نفسه لا یكرم
بأكثر مما نحتاج أن نستمتع بهذه الصورة الندیة الرائعة للركب المرتحل الذی أوشك أن یستقر.
فلما بلغن الماء زرقاً جمامة وضعن عصی الحاضر المتخیم
وعندما جاء النابغة یتحدث عن النعمان یكیل له المدیح منفعلاً بموقف النعمان منه وموقفه من النعمان، مأخوذاً بماضیه، مأخوذاً كذلك بمعاناة الحاضر وتطلعات مستقبل هذه العلاقة.
ألم تكن الحكمة یسوقها والمثل یضربه سبیلاً إلى أن یفتأ ذلك كله بهذا البیت:
ولست بمستبق أخاً لا تلمُّه على شعث، أی الرجال المهذب
وشعر الأمثال استطالة لشعر الحكمة وتكثیف له.. لأنه یجمع الفكرة والصورة، ویلتقی علیه العقل والمخیلة.. إن وراء المثل الذی یضربه الشاعر حادثة كذلك.. ولكن الشاعر ینسى الحادثة أو هی تتوارى عنه یغرمها فی داخله ویترك لها أن تتفاعل مع كل ما فی هذا العالم الداخلی مما نعرف أقله ونجهل أكثره.. ثم –فی مثل الفجاءة- لا یلبث أن یطفو على السطح هذا المثل الذی یضربه، وهذه البنیة الفنیة التی یبنیها وهذه الصیغة التی یصوغها والتی یترك لنا أن نتمثل الحدث ذاته وكل حدث آخر مشابه له أو مقارب.
أبو تمام حین ساوره الانفعال بالهجرة والسفر وأقلقه سكونه، ولم یشأ أن یلقی إلینا بذات فكره أو ذات نفسه فی صیغة محررة كهذه التی یلقیها الواعظ أحیاناً.. لا یكون بدأ بذلك، بدأ بالفكرة.. ولكنه سرعان ما قفز عن طریق المثل الذی ضربه إلى الشعر أن الفكرة هی الفكرة:
وطول مقام المرء فی الحیّ مخلقٌ لدیباجتیه، فاغترب تتجدد
ولكن المثل كان هو الصیغة الفنیة التی یمكن أن تجسد هذه الفكرة وأن تنطوی فی ثنایاها على ما لا نهایة له من الأوضاع المماثلة:
فإنی رأیت الشمس زیدت محبة إلى الناس أن لیست علیهم بسرمد
ویظل الشاعر، وهو فی نطاق الحكمة والمثل، مشدوداً إلى تجربة وإلى عنصر العامل أو الفكر فی هذه التجربة.. ولكنه لا بد له من أن یغادر ذلك إلى نوع من الانفعال الفنی الذی تعبر عنه الصورة التی یرسمها والمثل الذی یضربه.
أوشك أن أقول إن الحكم والأمثال هی بعض ما یمتاز به شعرنا العربی.. إننا لا نسوق الانفعال هلامیاً ضبابیاً لا شكل له، ولكن شعراءنا یحاولون أن یجدوا لهذا الانفعال ركیزته المادیة إن صح التعبیر أو معادله المادی إن شئت.. ففی ذروة انفعال شعرائنا الغزلیین، حین تحلق بهم عواطفهم إلى أسمى سمات الوجود الذاتی والوجد النفسی، یلتمع هذا التیار العقلی الملون على شكل حكمة معبرة، كما یلتمع البرق على صفحة السماء، ونسمی نحن هذه الحكمة –حین جمدنا العمل الفنی فی تسمیات: التذییل...
وقد كان جمیل فی عنوان انفعاله، مما یعانی من الناس ومن صاحبته بثینة، ولكنه لم یصغ انفعاله حادثة، ولم یصغه تأوهاً، ولم یعبر عنه بهذه الأشكال المحترقة وإنما استطاع أن یغلفه بهذا الأداء الهادئ- المضطرم إن صحت هذه المزاوجة:
كذلك كان أبو تمام فی عمق أعماق تجربته الذاتیة مع الناس ومع المجتمع من حوله.. كان مع صدام الخیر والشر، مع تجاور الحسد والضغینة والمنافسة، مع لقاء العاجزین والحاسدین، مع الفضائل الكامنة والحسد الظاهر.. ولكنه لم یقص علینا قصة ذلك ولم یحك لنا حدیثاً بذاته أو واقعة بعینها.. وإنما ترك هذه المعاناة تتجمع ثم تتجمع، وتتكثف ثم تتكثف، ثم تتفجر بعد ذلك على هذا النحو الذی داخلته القوى العقلیة وإن كان غاصاً بالانفعال الإنسانی وجملة التجارب الذاتیة، فقال:
وإذا أراد الله نشر فضیلة طویت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فیما حولها ما كان یعرف طیب عرف العود
ولك أن تلاحظ كیف استعمل لسان الحسود ولسان النار، وكیف اشتركا، وهما ما هما سوءاً، فی الكشف عن الخبیء الطیِّب الكامن فی الخلق أو من الطِّیب.
هل قلت أن الحكمة تعبیر تجربة؟.. لقد أخطأت إذن، أو لعلی جانبت الدقة.. وإنما أردت أن أقول أنها تعبیر عن تجارب.. وعلى نحو ما تتجمع المیاه فی باطن الأرض مارة بطبقات وتتصفى لتستحیل ینبوعاً، كذلك أمر شعر الحكمة.. إنه تكثیف لمجموعات من التجارب، بعضها ناشئ عن معاناة ذاتیة حسیة، وبعضها ناشئ عن معاناة تأملیة نظریة.. ثم یكون تفجرها هذا بعد.
إننا، هنا، نضع أیدینا على الفارق الكبیر بین الشعر العربی فی جملته قبل أن تداخله النزعات المحدثة، وبین الشعر العربی الذی غلبت علیه هذه النزعات.
فی شعرنا الذی كان یغیب الحدث لتتمثل نتائجه أو أفكاره التی یطرحها.. قد یظهر من الحدث بعض صوره وتفاصیله.. ولكننا لا ننطلق من التفاصیل.. الشاعر قد یزین بهذه التفاصیل عمله الفنی، یداخله بین أجزائه.. ولكن یظل هذا (الكل) هو الذی یجتذب الشاعر.. الجزئیات الصغیرة هی موطن تنبه، وموطن توقفه، وموطن اهتمامه، وانفعاله بها وتفاعله معها.. ولكن یظل یجاوز هذه التفاصیل فی كلیات.. أو یساوره الحرص على ذلك.. وهی كلیات صغیرة حیناً أو هی كلیات كبرى حیناً آخر.
إننا نتهم أحیاناً بضیق الأفق فی أعمالنا الفنیة فی الشعر العربی، وذلك حین یقال لنا إن الفكرة أو الكلیة تستبد بها فتحجب عنها آفاقاً صغیرة موجبة.. ولعل ذلك وهم یقع فیه الباحثون.. فالخنساء لم تنس ملمحاً من ملامح معاناة الناقة التی فقدت رضیعها والتی أخذت تلوب علیه هنا وهناك –حین أرادت (الشاعرة) أن تصور وجدها على فقد أخیها وأن تمثل له بوجد الناقة التی أبعدوا عنها رضیعها وصنعوا لها رضیعاً من قش، استدراراً للبنها أن یفیض:
وما عجول على بوٍّ تطیف به لها حنینان إصغار وإكبار
ترتع ما رتعت فإنما هی إقبال وإدبار
یوماً- بأوجد منی حین فارقنی صخر، وللدهر إحلاء وإمرار
ولك أن تتجاوب ما شئت مع هذا الإیقاع الحزین المتكرر الذی أحكمت الصیاغة التعبیر عنه: إصغار وإكبار، وإقبال وإدبار، وإحلاء وامرار...
والحق، أننا فی جملة نتاجنا الأدبی أمام ثروة من الجزئیات تمتد كما تمتد وتتناثر حبات الرمل، ولكن شعرنا حریص على أن یضع الوحدة الكل من هذه الذرات.. أن یؤلف منها هذا الكون الذی اسمه الصحراء.. من خلال الكون الشعری.. أو القصیدة الشعریة.. إننا نجمع فی توازن دقیق بین جزئیات العمل الفنی وبین الكل الذی ینصاغ منه.. بین رفات البصر، وبین تحدیق البصیرة.. بین الصورة والفكرة.
***
فی العقود الأخیرة لقی الفكر العربی ألواناً من الغزو، ولقی الشعر العربی كذلك، وهو نتاج الحیاة العربیة والنفس العربیة والفكر العربی، حملات قاسیة.. واتهم بتهم كثیرة لم یكن التحدیث أو التجدید غرضها وإنما كان التنفیر من هذا التراث بعض غایتها.
كان من جملة ما حورب به الشعر العربی نزعته هذه الحكمیة.. وصلة ما بین الحكمة والخلق فی كیاننا الفكری، دفعت بهذه الحملة الظالمة أن تنال من النزعات الأخلاقیة فی هذا الشعر.. فأطلقت علیه أسماء وأضافت إلیه صفات.. قالت عنه أنه شعر الوعظ، وقالت إنه شعر الخمود العاطفی، ورمی بالجفاف والنزعة المنطقیة، وهی لیست من الشعر فی شیء.. وبلغ من شدة هذه الحملة وتأثیرها إننا جردنا كتب الطلاب فی المدارس: كتب القراءة وكتب الاستظهار من مثل هذه النماذج الحكمیة والأخلاقیة، وساورنا الخوف من تهمة الجمود وبلادة الذوق فعزفنا عن وضعها موضع التداول.. وعلى حین كان هذا الشعر دیوان العرب وكان الخلیفة الثانی الفاروق یحض على روایته، وعلى حین كان الطفل ینشأ على ما فی هذا الشعر من مثل وأخلاقیة، وعلى حین اختزن تصوراتنا وتطلعاتنا وتجاربنا عبر القرون – فإن هذه الحملات الظالمة التی أشرت إلیها زرعت التشكیك فی نفوسنا متذوقین ومؤلفین، وحرمت أجیالاً متلاحقة من أن تتفاعل مع النماذج الرافعة لهذا الشعر، وأنسینا الهدف الأخلاقی والتربوی لنملأ أذهان الأطفال والطلاب بلغو من الكلام، لا تتوافر له لا القیم الفنیة ولا القیم الأخلاقیة.. بل إن المعلم لیعجز عن تقریبه للطلاب.. فإذا الذی یبقى فی نفوسهم منه بقع مظلمة لا لون لها ولا خطوط لها.
والذی یراجع الیوم كتب التعلیم الابتدائی والمتوسط یدرك أی انحراف صارت إلیه النصوص الأدبیة بعداً عن مثل هذه النماذج، وانصرافاً عنها، ومباعدة بین الجیل العربی والتاریخ العربی.
وعلى حین كنا نتعلم ونعلم فی المدارس الابتدائیة والثانویة نصوصاً تكسب الطالب مناعة أخلاقیة، وترتفع بسلوكه إلى أفق إنسانی هو من صمیم تراثه، ألهینا عن ذلك بنماذج من النثر الحدیث والشعر الحدیث، قد یكون لها بعض الطرافة، ولكنها بعیدة عن الهدف التربوی الأصیل الذی هو شد الطلاب إلى المثل العلیا أو تقدیم التجارب الإنسانیة الكلیة لهم، فی مثل هذه القوالب التی أطلقنا علیها، تزهیداً بها، شعر الحكمة.
وحتى الشعراء الذین لم تستطع حملات التشكیك أن تنال من مكانتهم الأدبیة لم نعد نختار لهم مثل الذی كنا نختار، مما یدفع بالطالب إلى السمو وطلب الرفعة وتجنب التبذل وصیانة القیم.. وإنما أخذنا نختار لهم أضعف نصوصهم باسم التسهیل حیناً.. وباسم بعض القیم الفنیة الجدیدة حیناً آخر.. لم یعد فخر المتنبی ولا مدیحه، ولا انطلاقات أبی تمام ولا زهدیات أبی العتاهیة هی التی تجتذبنا..
وقد أخذنا بتدریس شعر السیاسة والعصبیات والفرق والصعالیك بكل ما یخلف للنفس العربیة من جروح وتخلخل وتناقضات وبكل ما یثیر من أحقاد سامة وخلق عقیم غیر منتج.
ولو أننا نظرنا نظرة منصفة لكان لنا موقف أكثر إنصافاً، موقف لا یضحی بالقیم الأخلاقیة ولا بالقیم الجمالیة ولا بالقیم الفنیة، ولا یدفع بالجیل إلى أن یتذبذب قبل أن یتحصرم، ولا یضعه على حافة الهاویة.. وإنما یجد فی التراث ضالته دون أن یزهده به أو یصرفه عنه.
لست أدری إذا كان الأستاذ عبد المعین الملوحی حین أختار شرح مختارات عبد الله فكری (نظم اللآل فی الحكم والأمثال) قد قصد قصداً إلى شیء من ذلك.. ولكن عمله، على أیة حال، نوع من التوجه السلیم لا نملك إلا أن نشكره علیه...
إننا ونحن على أبواب المعارك الفاصلة جدیرون بأن نفكر دائماً بمردود كل ما نعلم وما نتعلم.. أن نضع مصیر الجدید أمانة فی أیدینا.. وحین ندرك عمق الأمانة وخطورة المسؤولیة، فمن المؤكد أننا سنعید النظر فی كثیر مما انجرفنا إلیه.
هل یكون عرض هذه النماذج –حتى فی هذا الشكل الحیادی- مقدمة لتناول قضیة هی من أخطر قضایا البناء الداخلی.. قضیة إنصاف الشعر العربی وإدراك مغزى الحملات علیه، وإنصافه بعد طول تشكیك منها ووضعه فی مكانه من نفوسنا، وإدراك أنه شعرنا وأنه تجربتنا، وأنه وجداننا القریب والبعید، وأن دراسته لم تزل متأثرة بهذا الزیف الذی انهال علینا من كل جانب.
إنی لا أطلب شیئاً.. إلا أن ننصف أدبنا. أن ننصف أنواعه كلها، وأن نتبین حق التبین، قیمه الفنیة والأخلاقیة، حتى نحسن الانقیاد إلى هذه القیم، بدیلاً عن الثورة الطائشة علیها.
+ نوشته شده در ۱۳۸۸/۱۲/۱۹ ساعت 20:29 توسط دكتر علي ضيغمي
|