سعدی الشیرازی ... شاعر الانسانیة
ولما فرغ سعدي من التحصيل في نظامية بغداد قام برحلات متعددة الى كثير من البلاد الاسلامية، فزار الشام والحجاز ومصر، وعاد الى مسقط رأسه شيراز في عهد الاتابك سلغري ابي بكر بن سعد بن زنكي، وانخرط في خدمة الاتابكة، وانتسب الى سعد بن ابي بكر فعرف بالسعدي منذ ذلك الوقت، وقد ظل صيت سعدي ملء السمع والبصر في ايران وخارج ايران الى ان توفي عام 694هـ الموافق (1294م) في رباط كان بناه في شيراز ومازال قبره قائما هناك الى اليوم.
لقد كان الشيخ سعدي غزير الانتاج العلمي، ولقد ساهم بنصيب وافر في كل العلوم المعروفة في عصره، واهم كتابين بقيا لسعدي هما معلمتاه الشهيرتان الكلستان (النثري) والبوستان (الشعري).
لقد ظل كتاب كلستان (ومعناه حديقة الورود) لاكثر من ثمانمائة عام كتابا تربويا واخلاقيا، وهو من عيون الشوامخ النثرية في الادب الفارسي، ظل طول قرون عديدة كتاب التدريس والتذوق في الادب الفارسي في اغلب المدارس الاسلامية ليس في داخل ايران فحسب بل في كثير من البلدان الاسلامية مثل الهند وتركيا وبعض البلاد الاسلامية التي كانت تدور في فلك الامبراطورية العثمانية وحين سقطت الهند في يد الاستعمار البريطاني لم يجد الإنجليز وسيلة لدراسة النفسية الهندية المسلمة خيرا من دراسة الافكار المثبوتة في الفكر الفارسي الذي كان يدرسه المسلمون في الهند خاصة كتاب كلستان للشيخ سعدي.
ولقد ترجم كلستان الى اللاتينية عام 1651م واشاد به المفكر الفرنسي الشهير (فولتير) وعدة من الكتب الرائدة في الفكر الانساني، كما قابل المفكرون الالمان وعلى رأسهم (جوته) هذا الكتاب بكثير من التقدير والاحترام.
اما الكتاب الثاني للشيخ سعدي فهو البوستان (الحديقة) فقد لقي هو الآخر اهتماما واسعا لدى المهتمين بالدراسات الشرقية عامة والفارسية خاصة.
لقد ضم البوستان بين دفتيه ادفأ العواطف الانسانية بأستاذية عالية نادرة لا تتوفر في تاريخ الفكر البشري الا لعباقرة الشعراء.
ان البوستان يشتمل على اكثر من اربعة آلاف بيت من الشعر الفارسي الرائع المصفى، انه رائعة سعدي التي قل ان يدانيها في الروعة اية منظومة شعرية في الادب الفارسي.
البوستان اسم على مسمى ففيه كل ما يطمع فيه المرء من ابواب الفكر البشري مصاغة بشكل اخاذ ولولا ايماني بمدى عقم الترجمة في نقل الاحاسيس كما يريدها الفنان المبدع لجئت بنماذج من ابداع سعدي ولكن هيهات فقد قال الجاحظ في معلمته (الحيوان) والشعر لا يستطاع ان يترجم ، ولا يجوز عليه النقل ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب منه.
أبدع سعدي الشيرازي (1219م- 1294م ) روائع لازال الأدب الفارسي يحتفي بها، أخرج إلى الناس أجمل النصوص الأدبية التي تمزج بين الفائدة والمتعة، وجعلها قمة بلاغية، سهلة ممتنعة، سهلة حين تقترب منها، لكنها ممتنعة حين تتجرأ على مجاراتها، فأضحى سعدي مدرسة أدبية قائمة بذاتها، إذ اعتبر أب النثر الفارسي، استطاع كذلك أن يمزج بين خلاصات تجاربه، بعد ثلاثة عقود تنقل فيها بين الكثير من البلدان والثقافات، لذلك تأهل ليكون رمز المحبة الإنسانية، واستحق أن يزين مدخل مقر الأمم المتحدة في نيويورك بأبياته الشهيرة: ( أبناء آدم بعضهم من بعض، في أصلهم خلقوا من جوهر واحد، إن أصاب الدهر أحد الأعضاء بألم، استجابت له باقي الأعضاء بالاضطراب،
إن كنت لا تبالي بمحن الآخرين، فأنت لا تستحق أن تسمى آدمي).
عرف سعدي الشيرازي بآثاره الفارسية أكثر من غيرها، إلا أنه نادرا ما تذكر نصوصه الشعرية والنثرية التي أبدعها بلسان عربي جميل، عبر فيها عن وسعة أفقه ورهافة حسه الإنساني، بالإضافة إلى أن هذه النصوص تؤكد الانتماء الحضاري المنفتح والممتد لشاعر قضى أكثر عمره في السير والحكمة..
يقول سعدي في إحدى مواعظه العربية:
عيب علي وعدوان على الناس
إذا وعظت وقلبي جلمد قاس
رب اعف عني وهب لي ما بكيت أسى
إني على فرط أيام مضت آس
مر الصبا وأبيض ناصيتي
شيبا، فحتى متى يسود كراسي
يا لهف عصر شباب مر لاهية
لالهو بعد اشتعال الشيب في راسي
ولما اشتد به ألم العشق، أنشد سعدي يقول:
تعذر صمت الواجدين فصاحوا
ومن صاح وجدا ما عليه جناح
أسروا حديث العشق ما أمكن التقى
وإن غلب الشوق الشديد فباحوا
سرى طيف من يجلو بطلعته الدجى
وسائر ليل المقبلين صباح
يطاف عليهم والخليون نوم
ويسقون من كأس المدامع راح
ولما طغى عليه حال المحبة، أنشد:
أصبحت مفتونا بأعين أهيفا
لا أستطيع الصبر عنه تعففا
والستر في دين المحبة بدعة
أهوى وإن غضب الرقيب وعفا
وطريق مسلوب الفؤاد تحمل
من قال اوه من الجفاء فقد جفا
دع ترمني بسهام لحظ فاتك
من رام قوس الحاجبين تهدفا
صياد قلب فوق حبة خاله
شرك يصيد الزاهد المتقشفا
وعندما سقطت بغداد في مخالب هولاكو، وبعد قتل الخليفة العباسي المسعتصم بالله، فاضت مدامعه، فقال:
حبست بجفني المدامع لا تجري
فلما طغى الماء استطال على السكر
نسيم صبا بغداد بعد خرابها
تمنيت لو كانت تمر على قبري
لأن هلاك النفس عند أولي النهى
أحب لهم من عيش منقبض الصدر
زجرت طبيبا جس نبضي مداويا
إليك، فما شكواي من مرض يبري
لزمت اصطبارا حيث كنت مفارقا
وهذا فراق لا يعالج بالصبر
هذه هي زفرات سعدي العربية، موعظة ورثاء وغزل، نستطيع أن نسميها عربية القلب والوجدان، وهذا هو سعدي في جلبابه العربي، يؤكد انسجام الشعوب الإسلامية في إحدى مراحلها التاريخية، انسجام رواه الشعر كما خلدته أعمال ومكرمات لازلنا نذكرها.