قصیدة القناع فی الشعر السوری المعاصر ـــ محمد عزّام- سوریة یتوخى هذا البحث التعریف بقصیدة القناع، ومن ثم عرض أنماط الأقنعة ونماذجها فی الشعر السوری المعاصر. 1ـ مصطلح (القناع) : (القناع) لغة: هو ما تغطّی به المرأة رأسها من ثوب وغیره، كما جاء فی لسان العرب(1). وقد عُرف القناع عند العرب، حیث كان الممثل الهزلی (السمّاجة) الذی یقوم بمحاكاة حركات الناس وتقلید أصواتهم، یلبس قناعاً(2). وورد فی الموسوعة البریطانیة أن القناع Mask یرتبط بمصطلح (الشخصیة الدرامیة)(3). وأن الأصل اللاتینی للمصطلح هو Persona الذی كان یضعه الممثل على وجهه أثناء تمثیله(4). وأما تعریف القناع اصطلاحاً: فهو وسیلة فنیة لجأ إلیها الشعراء للتعبیر عن تجاربهم بصورة غیر مباشرة، أو تقنیة مستحدثة فی الشعر العربی المعاصر شاع استخدامه منذ ستینیات القرن العشرین بتأثیر الشعر الغربی وتقنیاته المستحدثة، للتخفیف من حدّة الغنائیة والمباشرة فی الشعر، وذلك للحدیث من خلال شخصیة تراثیة، عن تجربة معاصرة، بضمیر المتكلم. وهكذا یندمج فی القصیدة صوتان: صوت الشاعر، من خلال صوت الشخصیة التی یعبّر الشاعر من خلالها. 2 ـ مفهوم القناع: كان القناع جزءاً من الطقوس الدینیة البدائیة التی تهدف عن طریق السحر إلى مواجهة الطبیعة(5). ثم استخدم فی نوع من المسرحیات ازدهرت فی بلاطات الملوك فی عصر النهضة بأوربا، حیث كانت الشخصیة المسرحیة تتقنّع وتتنكّر وتشترك فی موكب رمزی، وهی تنشد الأغانی أو تلقی الخطب(5)، قبل أن یدخل عالم الشعر، فیستخدمه الشاعر لیطرح أفكاره ومشاعره من خلفه، ویجعله یتحدث بلسانه، یقول جابر عصفور فی تعریفه للقناع: "القناع یتخذه الشاعر المعاصر، لیضفی على صوته نبرة موضوعیة شبه محایدة، تنأى به عن التدفق المباشر للذات، دون أن یخفی الرمز المنظور الذی یحدد موقف الشاعر من عصره، وغالباً ما یتمثل رمز القناع فی شخصیة من الشخصیات تنطق القصیدةُ صوتَها، وتقدمها تقدیماً متمیزاً، یكشف عالم هذه الشخصیة، فی مواقفها أو هواجسها أو علاقتها بغیرها، فتسیطر هذه الشخصیة على (قصیدة القناع) وتتحدث بضمیر المتكلم، إلى درجة یخیّل إلینا أننا نستمع إلى صوت الشخصیة. ولكننا ندرك، شیئاً فشیئاً، أن الشخصیة ـ فی القصیدة ـ لیست سوى (قناع) ینطق الشاعرُ من خلاله، فیتجاوب صوت الشخصیة المباشر مع صوت الشاعر الضمنی تجاوباً یصل بنا إلى معنى القناع فی القصیدة"(6).

3ـ أنماط الأقنعة فی الشعر السوری المعاصر:

یُعَدُّ التراث منبعاً ثرّاً. وتشكّل رموزُه سیرورةَ التواصل الحضاری لأبناء الأمة، ولذلك كانت شخصیاتهُ الملاذَ الرئیسی لعدد كبیر من الشعراء المعاصرین، یستوحون دلالاتها، ویتقمّصون ذاتها قناعاً، یحاولون من خلاله أن یبثّوا أفكارهم وأمانیهم، ویتجلّى ذلك فی أقنعة الشخصیات الأدبیة، والتاریخیة، والدینیة، والصوفیة، والأسطوریة... الخ، بل لعل الأقنعة جمیعاً مستمدّة من التراث، إلا فی القلیل النادر الذی التفت فیه بعض الشعراء المعاصرین إلى بعض الشخصیات الوطنیة أو الأدبیة أو القومیة أو الإنسانیة المعاصرة، فعبّر من خلالها عن معاناته التی هی معاناتها فی الوقت نفسه.

1ـ الأقنعة الأسطوریة

الأساطیر نبع لا ینضب للأدباء فی كل عصر، یجسّدون، بوساطتها، أفكارهم ومشاعرهم، وعلى الرغم من كثرة تعریفات الأسطورة، فإنها "كل ما لیس واقعیاً، لا یصدقه العقل المعاصر". بوصفها تدور حول حیاة الأوثان التی تعتبرها آلهة، أو أنصافَ آلهة، أو كائناتٍ خرافیة تقوم بأعمال خارقة.

وفی عصور الجاهلیة عرف العرب تراثاً أسطوریاً تمثّل فی الآلهة الوثنیة: ودّ، وسواع، ویغوث، ویعوق، ونسر... كما تمثّل فی أساطیر زرقاء الیمامة، ونسور سلیمان، وحیاة الكاهنین: شقّ وسطیح...

وقد استمد شعراؤنا المعاصرون الأساطیرَ من مصدرین هما: الأساطیر العربیة، والأساطیر الأجنبیة (الإغریقیة، والرومانیة). وتحرّج شعراؤنا من اتخاذ الآلهة الوثنیة أقنعة، ولكنهم استدعوها كشخصیات تراثیة، فوصفوا حیاتها الأسطوریة، أو حاوروها كما فی دیوان فایز خضور (آداد)(7). و(أداد) أو (حدد) هو إله المطر والعاصفة لدى السوریین القدماء. وكما فی دیوان نذیر العظمة (خبز عشتار)...

ومن الأساطیر العربیة تقنع بعض الشعراء بـ (الفینیق) وهی أسطورة عربیة فینیقیة، كما یرى المستشرقان الكرملی، ولامانس(8) تنصّ على أن (الفینیقَ) طائرٌ خرافی، یجمع ـ عندما یشعر بدنو أجله ـ أعوادَ العنبر التی تحترق بأشعة الشمس، فیشتعل جسمهُ. ومن رماد احتراقه تنبعث دودةٌ صغیرة، تكبر لتصیر فینیقاً جدیداً. وهكذا تستمر حیاتهُ ویستمر خلودهُ. ودلالة هذا العمل هی: الانبعاث من خلال الموت. ومن هذه الدلالة انطلق الشاعر نذیر العظمة فی قصیدته (9) حیث یقول:

ولیمةُ النار أنا،

أخرج من بین الرماد طائراً

أصعد من بین الحفر

وأَشرئب فوق صخر الجرح مكسوّاً ریشَ النار.

ومن الواضح أن مسوّغ الشاعر فی تقنّعه بالفینیق هو رغبتهُ فی حرق سكون الواقع المتحجر، وبعث الحق من خلال الرماد والنار.

ویُعَدّ أدونیس من الشعراء الرواد الذین وظّفوا الأساطیر فی شعرهم، وعلى الخصوص أسطورة (الموت والانبعاث) فی مستویاتها الفردیة والقومیة والإنسانیة، فقد مات أبوه احتراقاً بحادث مفجع. فعبّر عن ذلك فی قصیدة (الموت)(10). وقد اعتمد أسطورة (الموت والانبعاث) منذ خمسینیات القرن العشرین، ففی عام 1957 كتب قصیدته (البعث والرماد) جعل الفینیقَ فیها یُعطی بموته الحیاة، كما هو المسیح، وتموز. ثم عاد إلى رمز (الفینیق) فی دیوانه (أغانی مهیار الدمشقی)، وفی دیوانه (كتاب التحولات والهجرة فی أقالیم اللیل والنهار) الصادر عام 1965 ولم یكن موت الفینیق عنده نهایة، بل هو انبعاث جدید، بعد احتراقه. وتتّحد مأساة أدونیس الذاتیة مع الموت بمأساة وطنه.

ومن الأساطیر الأجنبیة تقنّع بعض شعرائنا المعاصرین بـ (سیزیف) الإله الأسطوری الذی قیل إنه سرق النار (المعرفة) من الآلهة، وأهداها إلى البشر. فغضب علیه كبیر الآلهة (زیوس)، وعاقبه بأن یحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادی، فیعود إلى إصعادها إلى القمة. ویظل هكذا حتى الأبد.

وقد تقنّع نذیر العظمة بسیزیف فی قصیدته (سیزیف الدمشقی) فأخذ ببدایة الأسطورة، ورأى نفسه سیزیف المؤمن بالإنسان وبقدرته على مواجهة المجهول:

سأضرب هذه الصخرة

لأنی مولعٌ بالماء

وأزرع فی رحمها بذرهْ.

كما تقنع بعض شعرائنا بأولیس (أو أودیس، أو أودیسیوس) بطل الأودیسة ثانی الملحمتین الإغریقیتین. وهو شخصیة أسطوریة: بطل، شجاع، ذكی، اشترك فی حرب طروادة فی (الإلیاذة)، ثم عاد إلى وطنه، فاستغرقت عودتُه عشر سنین، قضاها فی المغامرات والأهوال فی البراری، والبحار، بینما زوجته (بنیلوبی) تنتظر عودته. وقد تكاثر حولها الراغبون فی الزواج بها، فكانت تعدهم بأنها ستوافق على الزواج حالماً تنتهی من نسیجها الذی تعمل فیه نهاراً، ولكنها كانت تحلّه لیلاً. ولهذا تُعَدّ رمزَ الوفاء والإخلاص لزوجها أولیس.

وقد تقنّع الشاعر السوری علی كنعان بأولیس فی قصیدته (القرصان)(11) التی یقول فیها:

بنلوبی

لم یعد لی غیرُ عینیك فآفاقی یبابْ

سفنی، بحارتی ناموا بأعماق العُبابْ

وأنا ملقى على الرمل أغنی، أتلوّى، أغزل الرؤیا، وأبكی

كیف لا تروی شرایینیَ أنهارُ السرابْ

كل ما حولی یبابْ

وأنا، حتى أنا.. لولاكِ یباب.

وواضح أن الشاعر الذی یصف لزوجته العناء والعنت الذی لاقاه فی عودته إلى وطنه، إنما من أجل أن تهلّ "زوجتُه" الثورةُ فتملأ الأرض خصباً وعطاء.

2ـ الأقنعة التاریخیة

اتخذ بعضُ شعراء الحداثة بعضَ الشخصیات التاریخیة أقنعة تنأى بهم عن التدفق المباشر للمشاعر الذاتیة وتخلق معادلاً موضوعیاً یؤدی بالشاعر إلى إحكام السیطرة على موضوعه. وبالطبع فإن الشاعر یختار من شخصیات التاریخ ما یوافق أفكاره والقضایا والهموم التی یرید التعبیر عنها. ومن هنا فإن تقنیة (القناع) هی من أهم الإفادات التی أفادها الشعر العربی المعاصر، إذ أن الشاعر عندما یتقنع بشخصیة تراثیة، أو أسطوریة، أو دینیة، أو تاریخیة... ینطق من خلالها، ویجعلها تنطق بما یرید، یقتضی ذلك منه موقفاً مشتركاً بین الشخصیات والشاعر، أی بین القناع والشاعر، وهذا یعنی "خلق أسطورة تاریخیة، لا تاریخاً حقیقیاً. فهو تعبیر عن التضایف من التاریخ الحقیقی، بخلق بدیل له (الأسطورة)، أو هو محاولة لخلق موقف درامی بعید عن التحدث بضمیر المتكلم"(12).

فمن التاریخ العربی الإسلامی تبرز شخصیةُ عبد الرحمن الداخل (صقر قریش)، الأموی الذی هرب من محاولة العباسیین قتله، إلى المغرب، فالأندلس، حیث بنى فیها، بمساعدة أخواله، دولةً عربیة دامت ثمانیة قرون، وهو یروی قصة هربه مع أخیه حین وصلا نهر الفرات، فسبحا لیعبراه إلى الضفة الأخرى: "وأقبلت الخیل فصاحوا علینا من الشط: ارجعا لا بأس علیكما. فسبحتُ وسبح الغلام أخی. فالتفتُّ إلیه لأقوّیَ من قلبه، فلم یسمعنی واغترّ بأمانهم، وخشی، فاستعجل الانقلاب نحوهم. وقطعت أنا الفرات. ثم قدموا الصبی أخی الذی صار إلیهم بأمان، فضربوا عنقه، ومضوا برأسه. وأنا أنظر إلیه وهو ابنُ ثلاثَ عشرةَ سنة. ومضیت إلى وجهی أحسَبُ أنی طائر وأنا ساع على قدمی"(13). وهكذا فُجع (الصقر) بقتل أخیه، كما فُجع بسقوط مجد قومه الأموی، فرحل متغرباً من الشام إلى الأندلس، حیث بنى فیها مجد العرب.

وقد اتخذه أدونیس قناعاً فی قصیدتیه (أیام الصقر)، و(تحولات الصقر)(14). وفی معظم قصائد دیوانه (كتاب التحولات والهجرة فی أقالیم اللیل والنهار) حیث مهّد لقناعه بثلاثَ عشرةَ مقطوعة، قبل الوصول إلى القصیدتین اللتین استخدم فیهما تقنیة القناع، لیحكی أسطورة (الصقر):

یبنی على الذروة فی نهایة الأعماقْ

أندلسَ الأعماقْ

أندلسَ الطالع من دمشقْ

یحمل للغرب حصاد الشرق

وهكذا یتماهى أدونیس بصقر قریش، ویتخذه قناعاً یتحدث من خلاله، وعلى الرغم من أن أدونیس، فی توظیفه (صقر قریش) الأموی یخالف مذهبه، فإن تماثل حیاة الاثنین أوجب علیه هذا التوظیف: فقد هرب أدونیس أیضاً من بلاده (سوریة) لأنه كان مطلوباً فیها، إلى لبنان، حیث بنى فیها مجده الأدبی. وحیاته تمثل "البعث": فقد مات (علی أحمد سعید اسبر) وبُعث من رماده (أدونیس). واهتمامه بصقر قریش هو اهتمام شخصی نابع من توافق حیاتیهما.

ولعل ممدوح عدوان من أكثر الشعراء السوریین اهتماماً بالرموز التاریخیة عامة، وبالأقنعة خاصة، فقد تقنّع بأكثرَ من شخصیة تراثیة، وجد فیها معادلاً موضوعیاً لموقفه من قضایا وطنه وأحداث مجتمعه، فقد وضع قناع (الحطیئة) فی قصیدته (یومیات الحطیئة)(15)، وتقنّع بالخنساء فی قصیدته (روی عن الخنساء)(16)، وتقنّع برجل من الخوارج فی قصیدته (خارجی قبل الأوان)، وبثائر من الزنج فی قصیدته (الهروب من ثورة الزنج)(17)، وتقنّع بوحشی قاتلِ حمزة فی قصیدته (سقطة وحشی)(18).

فی قصیدته (ثائر من الزنج) أظهر عدوان انحراف ثورة الزنج، فقد صور الفقر الذی یعانیه الزنج، بینما ترفل القصور بالغنى الفاحش. وبینما ینتظر الزنج مخلصاً ینقذهم من فقرهم المدقع، جاء (علی بن محمد) لیقودهم. ولكن قیادته كانت مثلَ أكذوبة للاحتیال على الزنج، لأن علی بن محمد هو وجه من وجوه الخلیفة العباسی:

كنتُ فقراً

وكانت مجاعةُ أهلی خیولاً

وبغیر فوارس كنّا انتظاراً، وكنّا أعنّهْ

جاءنا ابن محمد ثم امتطانا

وحین التقى بالأعادی استحلنا أسنّهْ(19).

ولأن الزنج لن یخسروا ـ بثورتهم ـ سوى فقرهم وأغلالهم، فقد امتشقوا السلاح یدفعون به عن أنفسهم الجوع والاستغلال. وحین التقى الجیشان: جیشُ الزنج، وجیش الخلیفة. عرفوا الخدعة التی مارسها علیهم قائدُهم علیُ بن محمد الذی اتفق مع الخلیفة ضد (الثورة).

كما تقنّع عدوان بأحد الخوارج فی قصیدته (خارجی قبل الأوان)(20)، وبجندی فی قصیدته (رسالة إلى أسماء بنت أبی بكر من العبد الفقیر المجنّد فی جیش أمیر المؤمنین المستعصم بالله)(21) اتخذ عدوان ـ أیضاً ـ جندیاً من الجیش الإسلامی قناعاً، فتحدث من خلاله إلى أسماء بنت أبی بكر عن هزیمة العرب فی حزیران 1967 التی قصمت ظهر العرب:

عُدنا من الوغى

.. تركنا فی الطریق السیفَ والحصان

نحن الذین ندّعی أنّا نخاف السلخَ بعد الذبح.

وهنا یتناصّ الشاعر مع قول أسماءَ بنت أبی بكر وأمِ عبد الله بن الزبیر الذی طالب بالخلافة، ودانت له البلاد عدا الشام التی جردت علیه جیشاً یقوده الحجّاج، فحوصر فی مكةَ ستة أشهر، ومُنع عنه الطعامُ والماء. وعندما وجد نفسه وحیداً، دخل على أمه أسماء وهی فی السابعة والتسعین من عمرها، یستشیرها فی متابعة القتال، فأجابته: إن كنت تعلم أنك أردت الدنیا، فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك. وأهلكت مَنْ قُتل معك. فقال لها: أخشى إن قتلونی أن یمثّلوا بی. فقالت: إن الشاة لا یؤلمها السلخُ بعد الذبح. فعاد إلى القتال، وهو فی السبعین من عمره، وظل یقاتل حتى استشهد. فصلبه الحجاج أیاماً. فقالت أمه: أما آن لهذا الفارس أن یترجّل. تلك هی الأم المسلمة الفذة، وهؤلاء هم الرجال الذین أنجبتهم، فأصبحوا خالدین خلود الجبال.

3ـ الأقنعة الدینیة

التراث الدینی مصدر غنی من مصادر الإلهام الأدبی، استمد منه الأدباء موضوعاتهم ونماذجهم الأدبیة. والأدب العالمی یحفل بالكثیر من الأعمال الأدبیة العظیمة التی تدور حول الدین، وقد كان الكتابُ المقدس مصدراً للأدباء الأوربیین الذین استمدوا منه شخصیاتٍ ونماذجَ أدبیة، كما كان القرآن الكریم مصدراً من المصادر التی استمدّ منها الأدباءُ موضوعاتِهم وشخصیاتهم فی بعض أعمالهم الأدبیة. وقد استفاد منه الأدباء الغربیون أیضاً كالشاعر الألمانی (غوته) فی دیوانه (الدیوان الشرقی للمؤلف الغربی)، والشاعر الإیطالی (دانتی) فی (الكومیدیا الإلهیة)، و(فكتور هوغو) فی دیوانه (المشرقیات)، وغیرهم.

وقد تقنّع محمد عمران فی قصیدته (أنا الذی رأیت)(22) بالسید المسیح، ورأى أن قَدَر الثوری هو أن یكون مسیحاً فادیاً، یفدی البشر بتضحیته بنفسه. ولكن المأساة هی أنه بلا قیامة، أی بلا انبعاث، فواقع "ثمود" لا یوحی بذلك:

جلجلتی أعرفها، وخشبَ الصلیب

وأعرف المسمارَ، والعلامهْ

وأننی بلا قیامهْ.

كذلك تقنّع ثائر زین الدین بمریم، أمِ السید المسیح التی تناجی ربها أن یرد لها ابنها المسیح الذی وهبها إیاه ثم أخذه(23):

ردّ لی ولدی أیهذا الإله الحبیب

هل رأیت الشماتة فی أعین الناس؟

ردّ طفلی وخذ ضوء عینی.

ومن الواضح أن الشاعر عندما تقنع بالسیدة مریم فإنما لأنه یعانی التجربة نفسها فی فقد الولد.

وأما من أقنعة الصحابة فأكثر ما تقنع شعراؤنا المعاصرون بشخصیة (الحسین بن علی) شهید كربلاء الذی غادر الحجاز إلى العراق، بدعوة من أهلها، لینصبّوه خلیفة. ولكن الجیش الأموی اعترضه ومَنْ معه فی (كربلاء)، فقطع عنهم الماء، فتخلّى عنه أصحابه إلا نفرٌ قلیل ظل یقاتل بهم حتى استشهد، فأصبح رمزاً أعلى فی الشهادة من أجل الأفضل، ومن هنا اتخاذُه قناعاً من قبل بعض الشعراء المعاصرین للثورة على القیم الفاسدة فی هذا العصر الجبان.

ولعل أدونیس یفوق غیرَه من الشعراء فی الإفادة من معطیات شخصیة الحسین، ویبدو أدونیس مرتاحاً إلى هذا الرمز، یجود بشعره فیه، وذلك فی مقطع (مرآة الشاهد) من قصیدته (مرایا وأحلام حول الزمن المكسور) حیث یعادل فیه بین رمز الحسین ورمز المسیح، وحیث تشارك الطبیعة فی كل مظاهرها بالحزن على الحسین:

وحینما استقرت الرماحُ فی حُشاشة الحسین، وازیّنت بجسد الحسین

وداست الخیولُ كلَّ نقطة فی جسد الحسین، واستُلبتْ وقُسّمتْ ملابسُ الحسین

رأیتُ كل حجر یحنو على الحسین

رأیتُ كل زهرة تنام عند كتف الحسین

رأیتُ كل نهر یسیر فی جنازة الحسین.

وكذلك تقنّع الشاعر فایز خضور بالحسین، وذلك فی قصیدته (اعترافات علی بن الحسین)(24) عبّر فیها عن مأساة المناضل العربی فی الواقع الراهن، وأدان الواقع، من خلال شخصیة الحسین، متماهیاً بالحسین:

كنتُ أدعو لمصیر عربی

یمنح الكون سلامهْ

لا لعرش دموی.

وكذلك تقنّع خالد محیی الدین البرادعی بشخصیة الحسین، فاتخذه قناعاً فی قصیدته (الحسین مقتول فی كل مكان)(25). روى فیها قصة خروج الحسین من الحجاز إلى العراق، لإنقاذ المسلمین من السلطة القائمة آنذاك، وتماهى معه، فهو أیضاً یرید أن ینقذ الوطن من المفسدین الذی ولغوا فیه، فما شبعوا.

4ـ الأقنعة الصوفیة

جسّدت الشخصیات الصوفیة نوعاً خاصاً من الفكر والسلوك، وقد عرف شعراؤنا المعاصرون الصلةَ التی تربط بین تجربتهم الشعریة والتجربة الصوفیة، التی تتبدّى فی تجاوز الواقع، وتحقیق الاتحاد بكل مظاهر الوجود. وقد كان شعر أدونیس تعبیراً عن هذا النزوع إلى الاتحاد بكل مظاهر الكون.

وقد تقنّع بعض شعرائنا المعاصرین بقناع الصوفی الكبیر (محیی الدین بن عربی) الذی ولد فی مرسیه من بلاد الأندلس عام 560هـ، وسافر إلى مصر، فدمشق، فبغداد، وجاور بمكة، وأقام فی بلاد الروم، ثم توفی عام 638هـ ودفن فی دمشق، فی مسجد یُعرف باسمه على سفح جبل قاسیون. ومن أهم كتبه: ترجمان الأشواق، والفتوحات المكّیة.

و
وعندما التقیتُ فیك یا حبیبتی

شعرت أننی الآن قد بدأت

ما قیمةُ الحوار؟ ما دمتِ یا صدیقتی، قانعةً بأننی وریثُ شهریار

أذبح، كالدجاج، كل لیلةٍ ألفاً من الجواری

أدحرج النهود كالثمارِ.

ومن شخصیات ألف لیلة ولیلة أیضاً شخصیة (السندباد) الذی ورد ذكره فی اللیلة (538) من ألف لیلة ولیلة. وربما كانت شخصیة السندباد هی أكثر شخصیات ألف لیلة ولیلة استحواذاً على اهتمام شعرائنا، وشیوعاً فی شعرنا المعاصر، "حتى لا نكاد نفتح دیواناً من دواوین الشعر الحدیث إلا ویطالعنا وجه السندباد من خلال قصیدة أو أكثر من قصائده، وما من شاعر معاصر إلا واعتبر نفسه سندباداً فی مرحلة من مراحل تجربته الشعریة"(46).

وقد تقنع سلیمان العیسى بالسندباد فی قصیدته (السندباد یروی حكایته الثامنة)(47) التی یروی فیها الشاعر حكایة رحلته من خلف قناعه (السندباد) لیعبّر عن واقعنا السیاسی والاجتماعی:

سافرتُ تحت التین والزیتون على جواد عنترهْ

والملك الظاهر والكتائب المظفّره

كما یشتمل تراثنا الشعبی على مجموعة كبیرة من السیر الشعبیة: كسیرة بنی هلال، وسیرة سیف بن ذی یزن، والزیر سالم، وعنترة... الخ وغیرها. ولهذه السیر الشعبیة أصول تاریخیة. ولكن القاص الشعبی أضفى علیها صفات أسطوریة وملحمیة، جعلت أبطالها یرتفعون إلى مقام أبطال الأساطیر والملاحم.

وقد وظّف بعض شعرائنا المعاصرین بعض شخصیات السیر الشعبیة، منها شخصیة قبیلة (بنی هلال) التی هاجرت من شبه الجزیرة العربیة إلى الغرب، حتى انتهت إلى تونس، واشتبكت مع من مرّت بهم فی معارك وحروب. وكان من أبطالها: أبو زید، والأمیر دیاب بن غانم، والأمیر حسن...

وقد استوحى محمد عمران (سیرة بنی هلال) فی قصیدته (مراثی بنی هلال)(48): رثى فیها أبطال (التغریبة) واحداً واحداً. ثم تقنّع بشخصیة دیاب الذی جعله مواطناً عادیاً أبعده السلطان عن الحرب مخافة النصر:

لم أُدعَ للحرب وللطعانْ

أرسلنی السلطانُ أرعى النوقَ والشیاه، أحمی له ظعائن القبیلهْ

أبعدنی عن ساحة البطولة، كان یخاف غضبی ونصری

وهذا المعنى نفسهُ والألفاظ نفسها ـ تقریباً ـ تتناصّ مع أمل دنقل فی قصیدته المشهورة (البكاء بین یدی زرقاء الیمامة) عندما تقنّع فیها أمل بشخصیة عنترة، وتحدث من خلاله عن معاناة عنترة، وهی فی الوقت نفسه معاناةُ المواطنِ العربی الذی تُبعده السلطاتُ عن المغانم، فإذا حلّت الحروب والنكبات وضعته فی مواجهة الموت.

وتقنّعُ عمران بشخصیة الأمیر دیاب فیه انزیاح تاریخی، فـ (دیاب) لم یكن مواطناً عادیاً، وإنما كان من الأمراء الحكام، وكان یجب أن یُقال مثلُ هذا الكلام على لسان (أبی زید) لا دیاب، لأن أبا زید من العبید السود الذین رفعتهم شجاعتهم إلى مقام السادة، كما كان شأن عنترة.

الهوامش:

(1) لسان العرب ـ مادة (قنع).

(2) محمد حسین الأعرجی ـ فن التمثیل عند العرب ـ وزارة الثقافة ـ سلسلة (الموسوعة الصغیرة) ـ بغداد 1987 ص54.

(3) الموسوعة البریطانیة ـ مجلد 6 مادة Mask ط15.

(4) مجدی وهبه، وكامل المهندس ـ معجم المصطلحات العربیة فی اللغة والأدب ـ مكتبة لبنان ـ بیروت 1984، ط2، ص 297.

(5) مجدی وهبه ـ معجم مصطلحات الأدب ـ مكتبة لبنان ـ بیروت 1974 ص304.

(6) جابر عصفور ـ أقنعة الشعر المعاصر: مهیار الدمشقی ـ فصول ـ مجلد1 ع4 عام 1981 ص123.

(7) فایز خضور ـ آداد ـ مؤسسة فكر ـ بیروت 1982.

(8) نذیر العظمة ـ سفر العنقاء ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1996 ص261.

(9) مجلة (الفكر العربی) طرابلس ـ لیبیة ـ أیلول وكانون الأول 1980 ص232.

(10) دیوانه: قصائد أولى ـ الأعمال الكاملة ـ دار العودة ـ بیروت 1971 ص117.

(11) فی دیوانه: أنهار من زبد ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1970 ص56.

(12) إحسان عباس ـ اتجاهات الشعر العربی المعاصر ـ سلسلة عالم المعرفة ص155.

(13)أدونیس ـ الأعمال الكاملة ـ دار العودة ـ بیروت 1970 ص1/ 449.

(14) نفسه ص1/ 461، 451.

(15) ممدوح عدوان ـ دیوانه: تلویحة الأیدی المتعبة ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1970

(16) ممدوح عدوان ـ الظل الأخضر ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1967.

(17) ممدوح عدوان ـ الدماء تدق النوافذ ـ المؤسسة العربیة ـ بیروت 1980 ط2.

(18) ممدوح عدوان ـ تلویحة الأیدی المتعبة...

(19) ممدوح عدوان ـ الدماء تدق النوافذ ص17 ـ 18.

(20) ممدوح عدوان ـ تلویحة الأیدی المتعبة ص63.

(21) نفسه ص 69.

(22) محمد عمران ـ دیوانه: أنا الذی رأیت ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1978 ص107.

(23) ثائر زین الدین ـ فی هزیم الریح ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 2003.

(24) فایز خضور ـ دیوانه: كتاب الانتظار ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1974، ص 12.

(25) خالد محیی الدین البرادعی ـ دیوانه: تداعیات المتنبی بین یدی سیف الدولة ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1976 ص91.

(26) فوّاز حجّو ـ ابن عربی یترجم أشواقه ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1994. وله أیضاً دیوان: الصعود إلى دم الحلاج ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2000.

(27) ثائر زین الدین ـ فی هزیم الریح ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 2003.

(28) جمهرة أشعار العرب ص43.

(29) علی الجندی ـ طرفة فی مدار السرطان ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1975.

(30) حسین حموی ـ مكاشفات عروة بن الورد الدمشقی ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1987.

(31) خالد محیی الدین البرادعی ـ صور على حائط المنفى ـ دار الطلیعة ـ بیروت 1970 ص47.

(32) ثائر زین الدین ـ فی هزیم الریح ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 2003.

(33) ممدوح عدوان ـ دیوانه: تلویحة الأیدی المتعبة ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1970 ص53.

(34) علی الجندی ـ دیوانه: الحمى الترابیة ـ المكتب التجاری ـ بیروت 1969 ص10.

(35) ولید مشوّح ـ دیوانه: أعیش كما تشتهون أموت كما أشتهی ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1993 ص9.

(36) خالد محیی الدین البرادعی ـ تداعیات المتنبی بین یدی سیف الدولة ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1976.

(37) فایز خضور ـ كتاب الانتظار ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1974 ص88

(38) وكذلك استدعى المتنبی كل من محمود درویش فی قصیدته (رحلة المتنبی إلى مصر) ـ دیوان: حصار لمدائح البحر ص 31، وأحمد عنتر مصطفى فی قصیدته (هكذا تكلم المتنبی) ـ مجلة الكاتب العربی ـ ع15 عام 1986 ص22، وأحمد محمد سعید فی قصیدته (هواجس المتنبی الأخیرة) ـ دیوانه: أرافق زهرة الأعماق ـ دار الرشید ـ بغداد 1979 ص16.

(39) محمد عمران ـ الدخول فی شعب بوان ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1972.

(40) الأغانی 14/ 56.

(41) دیوان دیك الجن ـ دار العودة ـ بیروت 1988 ص134.

(42) نزار قبانی ـ دیوانه: الرسم بالكلمات ـ منشورات نزار قبانی ـ بیروت 1967 ص157.

(43) إبراهیم عباس یاسین ـ دیوانه: منازل القمر ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 2000 ص42

(44) مصطفى النجار ـ دیوانه: كلمات لیست للصمت ـ دار المرساة ـ اللاذقیة 1997 ص76.

(45) نزار قبانی ـ دیوانه: الرسم بالكلمات ـ الأعمال الكاملة ص544.

(46) علی عشری زاید ـ السندباد بین التراث والشعر المعاصر ـ مجلة الثقافة العربیةـ لیبیة ـ فبرایر 1974 ص55.

(47) سلیمان العیسى ـ مجلة (المجلة) ـ یونیو 1971 ص15.

(48) محمد عمران ـ الأعمال الكاملة ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 2000 ص1/ 119