الوطن فی شعر السیاب
الدكتور كریم مهدی المسعودی
موقف الشاعر من الوطن هو الذی یحدد دلالة الوطن فی وعیه
عرض: عبد الأمیر خلیل
لم یكن السیاب اسما طارئا على الدرس الأكادیمی, فقد نشرت إحدى الدوریات العربیة ببلوغرافیا عن مجموع الاطاریح التی كتبت عن شعره خلال الثمانینیات من القرن الماضی فی أوروبا حیث أشارت إلى بلوغها أكثـر من ثلاثین أطروحة آنذاك, ناهیك عن الجامعات الأخرى فی الوطن العربی,
ومن هنا فان أی باحث یقف أمام هذا الشاعر مبهورا ومتحیرا, فالكثیر مما جاء فی منجزه الإبداعی قد تم بحثه, وألف فی نتاجه وسیرته الذاتیة العدید من الكتب, حیث یبدو الاختیار صعبا أمام أی دارس تدفعه الرغبة إلى تقدیم الشیء الجدید عن هذا الشاعر. وفی تقدیری فإن موضوعة الوطن لكثـرتها فی الأدبیات السیاسیة تجعل العدید من الباحثین یتهیبون الولوج إلى هذا الموضوع لارتباطه بالمفهوم السیاسی أو الأیدلوجی للوطن.
وفی كتابه ( الوطن فی شعر السیاب) یشیر د. كریم مهدی المسعودی إلى سبب اختیاره هذا الموضوع وأهمیته فی الدراسات الحدیثة, حیث بین فی مقدمة الكتاب بان دراسة (الوطن) فی الشعر هو من أكثر المواضیع إیحاء بالبعد السیاسی والاجتماعی بغیر التعامل مع النصوص الإبداعیة بوصفها وثائق تاریخیة, أو سیاسیة, أو اجتماعیة, أو بتعبیر آخر: كیف تدرس (الدلالة) غیر معزولة عن (البناء)؟
وأشار إلى أن المقصود بالوطن فی هذا البحث هو (العراق)، ولیس مطلق الوطن, ولهذا كان همُّ الدراسة منصبا على ما یعنیه العراق وطنا فی شعر السیاب، ولم تعن بمفهوم الوطن فی الرؤیة، وهو یتنقل من المحلی والقومی إلى الإنسانی والكونی، بالنظر إلى تطور الوعی وتحولات الرویة.
وقد أشار فی التمهید إلى ثلاثة مفاهیم، هی الوطن، الدلالة، البناء وبین أن الوطن لدى الإنسان، ولاسیما الأدیب یتخذ أبعادا متشعبة متداخلة، فهو انتماء وتاریخ وخلیط معقد من المشاعر والعواطف یحتاج سبرها إلى عملیات تحلیل معقدة ،بل یمكن للوطن ان یتخذ صورا وأنماطا متنوعة، فیتسع أحیانا لیشمل العالم كله، وقد یضیق فی بعض الأحیان حتى یمكن اختزاله إلى حدیقة منزل، وأوضح أن فكرة الوطن ترتبط بالمأوى والاستقرار المكانی مقترنا بـ(الأهل) ،فالمأوى یمثل المركز المكانی الذی یألفه الإنسان ویعود إلیه بعد أن یجهد نفسه فی كسب عیشه، مشیرا إلى ورودها فی أكثر من معنى فی الأدبیات الدینیة، وفی معاجم اللغة العربیة، كما قارن بین مفهومها فی التراث العربی ومفهوم الوطن فی العصر الراهن، فهناك (الوطن العام) وهو وطن كل مواطن، و(وطن الذات) الذی لا علاقة له بالسیاسة ومجریاتها، وهو (المكان) الذی یألفه الإنسان من(الوطن العام) .وان الفرق بین (الوطن العام) و(وطن الذات) بالنظر إلى العلاقة بهما – هو الفارق بین الاستجابة للضرورة والاستئناس بالاختیار ،فالوطن العام قدر مفروض ،ووطن الذات اختیار حر.
وأشار فی مفهوم الدلالة إلى الفرق بین المعنى والدلالة وبین آراء اللغویین القدامى والمحدثین فی هذه القضیة، ممیزا بین المعنى الشعری والمعنى النثری، وان موقف الشاعر من الوطن هو الذی یحدد (دلالة) الوطن فی وعی الشاعر أو رؤیته الشعریة، وسیكون هذا الموقف (الدلالة ) فی الشعر معادلا للوطن نفسه: أی أن (الوطن) لدى الشاعر – أی شاعر– هو (دلالته) التی نستخلصها من شعره .
وذكر أن بناء (الدلالة) یتجلى فی التأویل وقدرة الناقد أو القارئ الذی یمتلك مفاتیح للدخول إلى النص الشعری، ولا تتأتى هذه المزیة لأی كان، فالتأویل والتفسیر مفاهیم لها حدود ومعان تمنح النص الأدبی دلالات محتملة وقد تختلف من قارئ إلى آخر.
وأشار د. كریم المسعودی إلى أن التأویل یحتاج إلى من هو جدیر بالتصدی له علما وثقافة واحتراما للإبداع، ویمكن من خلال التفاعل بین القارئ – الناقد بمؤهلاته، والنص بما یختزنه من إمكانات أن تتحصل الدلالة التی یكنها النص الأدبی.
وفی الباب الأول – الفصل الأول المعنون بـ (دلالات الوطن العام) تناول الباحث محددات دلالات الوطن العام فی شعر السیاب وهی :1. دلالة الأغلال 2. دلالة (الثورة – التضحیة ) 3. دلالة المثال.
فالوطن – الأغلال: یتحدد انطلاقا من واقع الوطن الذی یعیشه السیاب بأبعاده السیاسیة، والاقتصادیة، والاجتماعیة وتتشكل فی وعیه مقترنة بخطوط المأساة التی خلقتها ظروف الوطن، وطبیعة الحكم وتعدد (الأغلال) بتعدد مستویات المأساة مشیرا فی ذلك إلى قصیدتی السیاب التى تظهر جوانب هذه المأساة منذ بواكیر حیاته .
وهی (حطمت قیدا من قیود) وقصیدة (دجلة الغضبى) والتی یشیر فیها إلى ثالوث التخلف، الجهل والفقر والمرض، كما بین أن وعی السیاب بمأساته هو الذی أنتج هذه القصائد المفعمة بالحزن والمتمثلة بالواقع آنذاك حیث یرى السیاب ذاته أو واقعه مكبلا بالأغلال، فالمرحلة هی التی أنتجت هذه القصائد والتی كان یسعى فیها إلى تجسید دلالة الوطن ذاتها فی قصائد تنسجم مع وعی التجدید الشعری.
وفی ( الوطن – الثورة – التضحیة ) أشار الباحث إلى دلالة الأغلال التی استبطنت معاناة الشاعر حیث ترشحت دلالة أخرى للوطن تنطوی على (الرفض) لواقع الوطن، والدلالة الجدیدة تبدأ من( التحریض )حتى تتركز فی (الثورة )التی یتلمس الشاعر بذرتها فی تناقضات الواقع.
كما تناول قصیدتی السیاب (مأساة المیناء) و(أعاصیر) التی تتضمن دلالة (الأغلال) والتی تنطوی على دلالة (الثورة) وتصاعد نغمة الحماس التی خلقتها انتفاضة الشعب الذی یرید تحطیم أغلاله ملمحا إلى تباشیر الصباح بعد تطاول لیل مظلم.
وبین د. كریم المسعودی أن بروز دلالة الثورة فی شعر السیاب یعود إلى مرحلة مبكرة من تجربته الشعریة، وان أعمق القصائد تجسیدا لدلالة (الثورة) عنده هی قصیدة (مدینة بلا مطر) حیث یمتزج الوعی الواقعی العمیق بالبناء الذی یفید من عناصر فنیة تتضافر على نسج التجربة الشعریة، وقد أفاد السیاب فی تلك المرحلة من الأساطیر فی العدید من القصائد التی تحرض على الثورة، وخصوصا فی قصائد، (النهر والموت)، و(المسیح بعد الصلب )، و( یا أبا الأحرار).
وفی (الوطن-المثال) درس الباحث هذه الثیمة التی تتحقق فی قصیدة السیاب (أنشودة المطر) حیث تتمازج الدلالة التى تؤكد ارتقاء الوعی بالبناء الذی لایتنازل عن شرط الإبداع، وان قراءة القصیدة تكشف عن تفاعل مع الواقع وتمثل لأعمق أبعاده، وتمازج الذات والموضوع
فالسیاب لا یلجأ إلى المباشرة فی تحدید موقفه، أو تنفیذ رؤیته التی ستحدد دلالة الوطن فی القصیدة، بل یتخذ من المرأة رمزا للوطن بعد ان یوحد بینهما، وتقترن (عینا الحبیبة) اللتان یغرقهما الأسى بالنخیل منذ السطر الأول:
عیناك غابتا نخیل ساعة السحر
ویشیر إلى أن ما یمنح القصیدة هذه الرؤیة عمقها أنها تنطلق من الحلم الشعری (الإنسانی) الذی یختلف عن حلم الیقظة الهروبی، فبالحلم الشعری یحقق الشاعر معنى رائعا من معانی الفن فی إحلال (الممكن) محل (الواقعی) بما یؤكد وعیا ناضجا فی فهم الواقع، وإدراك وحدة الإبعاد الزمنیة.
وفی الفصل الثانی المعنون بـ( دلالات وطن الذات) یقف د. المسعودی على تعلق الشاعر العربی بماضیه منذ العصر الجاهلی، فالشاعر دائما كثیر الاحتفال بالماضی، أما السیاب فقد كانت حیاته تتسم بكثیر من الخصوصیة، والتفرد بمأساویتها الفاجعة، فإذا كان یُتمه وفقره- أصلا زیادة على إحساسه الحاد بعدم وسامته – هویته الوجدانیة فان ثمة عاملین أسهما فی تثبیت ملامح تلك الهویة، وأضافا إلیها أبعادا وخطوطا عمیقة الغور فی تحدید علاقته بوجوده، وفرضتا علیه أن یتقوقع فی ذاته، وصار ینظر إلى حیاته بصورها ورموزها كلها – بل یمنحها دلالتها وألوانها – انطلاقا من تلك الذات. وان أول هذین العاملین هو: إخفاقه فی السیاسة بعد الذی سببته له من غربة وانكسار وفاقة فانتهى إلى عزلة مریرة، والآخر، مرضه الذی بدا بسیطا فی مرحلة مبكرة من حیاته، ولكنه اتخذ مسارا مأساویا جعله یذكره ببؤسه وشقائه.
وقد استطاع الباحث تحدید دلالات الذات بما یأتی :
1.إن كل دلالة تشكل خطا بارزا فی قصائد حقبة زمنیة معینة وفق طبیعة حیاة الشاعر فی تلك الحقبة، وإذا رافق الدلالة ظلال من الدلالات الأخرى، فان هذه الظلال تعمق الدلالة الأصلیة بخلاف دلالات (الوطن العام) التی قد تتداخل فی القصیدة الواحدة بسبب غیاب الرؤیة، أو عدم وضوحها تارة، وكون القصائد هی ناتج الاستجابة الآنیة للواقع تارة أخرى ان دلالات وطن الذات جمیعها تنبع من الذات، وتتشكل على وفق حالاتها ، تكشف بعدا عاطفیا، ولا تحدد موقفا سیاسیا، أو فكریا، ولهذا فان الوطن فی هذه الدلالات هو ما تنشده الذات ملاذا.
وقد ظهر لشعر السیاب ثلاث دلالات كلیة ،هی الوطن – الطفولة ، الوطن-المنزل ، والوطن– القبر، فالوطن – الطفولة، كما یرى الدكتور كریم المسعودی تتجسد ملامح دلالته فی قصیدة (غریب على الخلیج) التی تنطلق من معاناة الفقر فی الغربة وترسم جانبا من هموم الذات حین كان الشاعر بعیدا عن وطنه، فالشاعر فی هذه القصیدة شاعر یمضه الشوق ویحجب الحنین الطاغی فی خیاله قدرة استحضار الوطن فی بعده السیاسی، والاجتماعی فیعود إلى العراق بوصفه (ذكرى) تجیء من واقع آخر.
أما الوطن–المنزل، تتجسد دلالته فی ضوء ذلك (بمنزل) السیاب فی الحاضر، فهو یختزل الوطن، فلا یرى فیه غیر منزله، ولا تعدو الذكریات فی بیته أی قصیدة تحقق هذه الدلالة غیر ما یتصل بأجواء عائلیة حمیمة، ولیس من فارق بین قصیدة وأخرى فی هذا الجانب إلا استذكار السیاب لطفله والإلحاح على ذكر الزوجة .
الوطن–القبر، بدأ هاجس الموت یلح على السیاب بدءا من غربته المكانیة باحثا عن الشفاء، وكان یرى فی الواقع الموضوعی ما یمده بأسباب الأمل أحیانا، وحین لم یجد شفاءه فی بیروت یمضی إلى لندن، وكأنه یمارس نوعا من خداع الذات، وحین ینظر إلى حاله بعین الحقیقة یجد الموت ماثلا إمام ناظریه، وقد تجسد ذلك فی قصیدته (امام باب الله) وفی الباب الثانی – بناء دلالات الوطن – الفصل الأول المعنون ب (بناء دلالات الوطن العام) أشار الباحث إلى أن قصائد النمط (الحر) التی جسدت دلالات الوطن العام لم تكن كلها على الدرجة نفسها من الإتقان الشعری، وبقی تجدید القالب أو التشكیل العام شكلیا فی كثیر منها، ولم یتحقق فیها ما یجعل بناءها قادرا على نسج دلالات شعریة یسهم البناء نفسه فی توجیه القارئ إلیها وأكثرها لم تختلف فی میلها إلى الخطابیة والتقریریة عن القصائد التقلیدیة.
وبین الدكتور المسعودی أن القصائد التی نحت منحى تجدیدیا یستند إلى وعی التجدید، والإخلاص لمتطلباته قلیلة قیاسا إلى القصائد التی أشیر إلیها، وأكثرها أهمیة المطولات (المومس العمیاء، حفار القبور، والمخبر) وعلى الرغم من الإطالة والزوائد والمیل إلى التفصیل– وهی ظواهر تشیع فی هذه القصائد على تفاوت فیما بینها، فإنها مثلت انجازا متمیزا فی تجربة السیاب الشعریة، ولكنها فیما یتصل بدلالة الأغلال لم تكن تشیر إلا إلى ملمح من ملامح هذه الدلالة،وهو الفقر، وان كانت عناصر بنائها تجسد بحدة صورة لواقع مظلم وترشح أسى ثقیلا سببه الفقر الذی یؤلف البؤرة السوداء التی تنطلق منها خیوط القصیدة لتنشر سوادها على اللغة، وفضائها فیبدو خانقا.
فالباحث اختار لمتابعة(دلالات الوطن العام) على قصیدة (حسناء الكوخ) لدلالة (الأغلال) و (حفار القبور) لدلالة (الثورة)، و(أنشودة المطر) لدلالة (المثال) وقد توصل فی تحلیله لقصیدة (حسناء الكوخ ) بأنها قصیدة توحی بالمعاناة فی حیاة الإنسان (الفتاة) والقهر الذی یرزح تحت ظله الوطن (الریف) یجعل القصیدة معبرة عن دلالة (الأغلال) وان هذه الدلالة سیاسیة ولیست شعریة بالنظر إلى القصیدة كاملة، وان رشحت بعض مقاطعها دلالات شعریة جزئیة توحی بواقع مكبل .
أما قصیدة (حفار القبور) فقد بین الباحث بأنها قصیدة تحقق تمیزها الدلالی فی فرادة موضوعها، بمستواه الواقعی، فان رمزیتها تنبعث من طبیعة الموضوع نفسه، إذ لا یمكن تصور أن یكون (حفار القبور) إنسانا یحتمله الواقع بصورته تلك، ومن هنا تجبر القصیدة قارئها على استغوارها للكشف عن بعد آخر لهذه الشخصیة، ولعالمها (المقبرة)، وقبول القصیدة لهذا التفسیر الرمزی یعد نجاحا فی مستوى البناء الفنی.
كما أن قراءتنا المقطع الأول تؤكد الالتحام العضوی بین الصورة والإیقاع، وحركة الزمن التی تركز حضور الموت فی لغة القصیدة ،لتترشح الدلالة التی تنسجم مع سیطرة الموت السیاسی، واختناق الحیاة فی واقع القصیدة.
وفی قصیدة (أنشودة المطر) یقف د. كریم المسعودی على معجم القصیدة وطغیان البعد الرومانسی، وان كانت مفرداتها تنتمی إلى المعجم التقلیدی (حمراء أو صفراء من أجنة الزهر)، والذی یبنی صورة ملونة نواتها كلمة (أجنة )، فالصورة السلبیة للوطن على الرغم مما فیها من قسوة أو ظلم فإنها تحمل فی أحشائها بذرة التغییر (الثورة) التی ما تزال هاجسا فی صورة جنین یختبئ فی قطرات المطر. فاشد صور الیأس تحمل فی ثنایاها بذور الأمل، إذ سیؤول الواقع إلى مستقبل ملئ بالخیر والنماء بالمطر الرامز للثورة .
وفی الفصل الثانی المعنون بـ(بناء دلالات وطن الذات) تناول الباحث قصائد المرحلة الأخیرة من إبداع السیاب، وهی مرحلة الغربة التی تمیزت قصائدها (بالغنائیة) والهموم (العاطفیة) حیث نحت منحى رومانسیا قوامه التعبیر.
وأشار إلى أن شعر هذه المرحلة كان اقل جودة وابتكارا، أو تركیزا وجرأة من مستوى قصائد دیوانه (أنشودة المطر)، فقد عاد البناء إلى التفكك وأصبح الاستخدام الأسطوری غیر ناجح، ومشوّها، ومجرد إظهار للمعرفة.
وبین أهم الظواهر الفنیة البارزة فی شعر الغربة المیل إلى المباشرة، والخطابیة إلى درجة تقربه أحیانا من النثر، وان من معالم نزوع هذا الشعر إلى المباشرة والخطابیة كثرة النداء وفعل الأمر إذ لا تكاد قصیدة تخلو منها، حیث نتلمس ذلك فی قصیدة (خذینی)وقصیدة (وصیة من محتضر) بوضوح :
یا صمت یا صمت المقابر فی شوارعها الحزینة
فیا الق النهار
كما لجأ الشاعر إلى الاستفهام لإشاعة جو من الخطابیة على شعره وقد رصد الباحث دلالات الوطن فی شعر هذه المرحلة، فوجدها تنحصر بالعراق– الطفولة، والعراق – المنزل، والعراق – القبر وتتلون بما كان دافعا لتحولات صورة الوطن فی رؤیة الشاعر، كالفقر، والمرض، والإحساس بالموت، وتكشف (المفردات) عن حدود هذه الرؤیة إذ تنحصر بالبحث عن (مكان) الشاعر، و(زمانه) و(أهله) وما یتصل به من ذكریات.
كما قام بتحلیل بناء القصائد التی تمثل دلالات وطن الذات، وهی (غریب على الخلیج) لدلالة (الطفولة)، و (إقبال واللیل) لدلالة (المنزل) و(جیكور أمی) لدلالة (القبر).
وقدم فی خاتمة الكتاب نتائج توصلاته والكشف عن منهجه التحلیلی فی أداء هذا البحث وأهمیته وتقدیم قراءة ناضجة لصورة الوطن فی شعر السیاب وحیاته الملیئة بالمواجع والمآسی.
یذكر أن هذا الكتاب صادر عن دار صفحات للدراسات والنشر فی دمشق، ویقع فی (215) صفحة من القطع الكبیر
وأشار فی مفهوم الدلالة إلى الفرق بین المعنى والدلالة وبین آراء اللغویین القدامى والمحدثین فی هذه القضیة، ممیزا بین المعنى الشعری والمعنى النثری، وان موقف الشاعر من الوطن هو الذی یحدد (دلالة) الوطن فی وعی الشاعر أو رؤیته الشعریة، وسیكون هذا الموقف (الدلالة ) فی الشعر معادلا للوطن نفسه: أی أن (الوطن) لدى الشاعر – أی شاعر– هو (دلالته) التی نستخلصها من شعره .
وذكر أن بناء (الدلالة) یتجلى فی التأویل وقدرة الناقد أو القارئ الذی یمتلك مفاتیح للدخول إلى النص الشعری، ولا تتأتى هذه المزیة لأی كان، فالتأویل والتفسیر مفاهیم لها حدود ومعان تمنح النص الأدبی دلالات محتملة وقد تختلف من قارئ إلى آخر.
وأشار د. كریم المسعودی إلى أن التأویل یحتاج إلى من هو جدیر بالتصدی له علما وثقافة واحتراما للإبداع، ویمكن من خلال التفاعل بین القارئ – الناقد بمؤهلاته، والنص بما یختزنه من إمكانات أن تتحصل الدلالة التی یكنها النص الأدبی.
وفی الباب الأول – الفصل الأول المعنون بـ (دلالات الوطن العام) تناول الباحث محددات دلالات الوطن العام فی شعر السیاب وهی :1. دلالة الأغلال 2. دلالة (الثورة – التضحیة ) 3. دلالة المثال.
فالوطن – الأغلال: یتحدد انطلاقا من واقع الوطن الذی یعیشه السیاب بأبعاده السیاسیة، والاقتصادیة، والاجتماعیة وتتشكل فی وعیه مقترنة بخطوط المأساة التی خلقتها ظروف الوطن، وطبیعة الحكم وتعدد (الأغلال) بتعدد مستویات المأساة مشیرا فی ذلك إلى قصیدتی السیاب التى تظهر جوانب هذه المأساة منذ بواكیر حیاته .
وهی (حطمت قیدا من قیود) وقصیدة (دجلة الغضبى) والتی یشیر فیها إلى ثالوث التخلف، الجهل والفقر والمرض، كما بین أن وعی السیاب بمأساته هو الذی أنتج هذه القصائد المفعمة بالحزن والمتمثلة بالواقع آنذاك حیث یرى السیاب ذاته أو واقعه مكبلا بالأغلال، فالمرحلة هی التی أنتجت هذه القصائد والتی كان یسعى فیها إلى تجسید دلالة الوطن ذاتها فی قصائد تنسجم مع وعی التجدید الشعری.
وفی ( الوطن – الثورة – التضحیة ) أشار الباحث إلى دلالة الأغلال التی استبطنت معاناة الشاعر حیث ترشحت دلالة أخرى للوطن تنطوی على (الرفض) لواقع الوطن، والدلالة الجدیدة تبدأ من( التحریض )حتى تتركز فی (الثورة )التی یتلمس الشاعر بذرتها فی تناقضات الواقع.
كما تناول قصیدتی السیاب (مأساة المیناء) و(أعاصیر) التی تتضمن دلالة (الأغلال) والتی تنطوی على دلالة (الثورة) وتصاعد نغمة الحماس التی خلقتها انتفاضة الشعب الذی یرید تحطیم أغلاله ملمحا إلى تباشیر الصباح بعد تطاول لیل مظلم.
وبین د. كریم المسعودی أن بروز دلالة الثورة فی شعر السیاب یعود إلى مرحلة مبكرة من تجربته الشعریة، وان أعمق القصائد تجسیدا لدلالة (الثورة) عنده هی قصیدة (مدینة بلا مطر) حیث یمتزج الوعی الواقعی العمیق بالبناء الذی یفید من عناصر فنیة تتضافر على نسج التجربة الشعریة، وقد أفاد السیاب فی تلك المرحلة من الأساطیر فی العدید من القصائد التی تحرض على الثورة، وخصوصا فی قصائد، (النهر والموت)، و(المسیح بعد الصلب )، و( یا أبا الأحرار).
وفی (الوطن-المثال) درس الباحث هذه الثیمة التی تتحقق فی قصیدة السیاب (أنشودة المطر) حیث تتمازج الدلالة التى تؤكد ارتقاء الوعی بالبناء الذی لایتنازل عن شرط الإبداع، وان قراءة القصیدة تكشف عن تفاعل مع الواقع وتمثل لأعمق أبعاده، وتمازج الذات والموضوع
فالسیاب لا یلجأ إلى المباشرة فی تحدید موقفه، أو تنفیذ رؤیته التی ستحدد دلالة الوطن فی القصیدة، بل یتخذ من المرأة رمزا للوطن بعد ان یوحد بینهما، وتقترن (عینا الحبیبة) اللتان یغرقهما الأسى بالنخیل منذ السطر الأول:
عیناك غابتا نخیل ساعة السحر
ویشیر إلى أن ما یمنح القصیدة هذه الرؤیة عمقها أنها تنطلق من الحلم الشعری (الإنسانی) الذی یختلف عن حلم الیقظة الهروبی، فبالحلم الشعری یحقق الشاعر معنى رائعا من معانی الفن فی إحلال (الممكن) محل (الواقعی) بما یؤكد وعیا ناضجا فی فهم الواقع، وإدراك وحدة الإبعاد الزمنیة.
وفی الفصل الثانی المعنون بـ( دلالات وطن الذات) یقف د. المسعودی على تعلق الشاعر العربی بماضیه منذ العصر الجاهلی، فالشاعر دائما كثیر الاحتفال بالماضی، أما السیاب فقد كانت حیاته تتسم بكثیر من الخصوصیة، والتفرد بمأساویتها الفاجعة، فإذا كان یُتمه وفقره- أصلا زیادة على إحساسه الحاد بعدم وسامته – هویته الوجدانیة فان ثمة عاملین أسهما فی تثبیت ملامح تلك الهویة، وأضافا إلیها أبعادا وخطوطا عمیقة الغور فی تحدید علاقته بوجوده، وفرضتا علیه أن یتقوقع فی ذاته، وصار ینظر إلى حیاته بصورها ورموزها كلها – بل یمنحها دلالتها وألوانها – انطلاقا من تلك الذات. وان أول هذین العاملین هو: إخفاقه فی السیاسة بعد الذی سببته له من غربة وانكسار وفاقة فانتهى إلى عزلة مریرة، والآخر، مرضه الذی بدا بسیطا فی مرحلة مبكرة من حیاته، ولكنه اتخذ مسارا مأساویا جعله یذكره ببؤسه وشقائه.
وقد استطاع الباحث تحدید دلالات الذات بما یأتی :
1.إن كل دلالة تشكل خطا بارزا فی قصائد حقبة زمنیة معینة وفق طبیعة حیاة الشاعر فی تلك الحقبة، وإذا رافق الدلالة ظلال من الدلالات الأخرى، فان هذه الظلال تعمق الدلالة الأصلیة بخلاف دلالات (الوطن العام) التی قد تتداخل فی القصیدة الواحدة بسبب غیاب الرؤیة، أو عدم وضوحها تارة، وكون القصائد هی ناتج الاستجابة الآنیة للواقع تارة أخرى ان دلالات وطن الذات جمیعها تنبع من الذات، وتتشكل على وفق حالاتها ، تكشف بعدا عاطفیا، ولا تحدد موقفا سیاسیا، أو فكریا، ولهذا فان الوطن فی هذه الدلالات هو ما تنشده الذات ملاذا.
وقد ظهر لشعر السیاب ثلاث دلالات كلیة ،هی الوطن – الطفولة ، الوطن-المنزل ، والوطن– القبر، فالوطن – الطفولة، كما یرى الدكتور كریم المسعودی تتجسد ملامح دلالته فی قصیدة (غریب على الخلیج) التی تنطلق من معاناة الفقر فی الغربة وترسم جانبا من هموم الذات حین كان الشاعر بعیدا عن وطنه، فالشاعر فی هذه القصیدة شاعر یمضه الشوق ویحجب الحنین الطاغی فی خیاله قدرة استحضار الوطن فی بعده السیاسی، والاجتماعی فیعود إلى العراق بوصفه (ذكرى) تجیء من واقع آخر.
أما الوطن–المنزل، تتجسد دلالته فی ضوء ذلك (بمنزل) السیاب فی الحاضر، فهو یختزل الوطن، فلا یرى فیه غیر منزله، ولا تعدو الذكریات فی بیته أی قصیدة تحقق هذه الدلالة غیر ما یتصل بأجواء عائلیة حمیمة، ولیس من فارق بین قصیدة وأخرى فی هذا الجانب إلا استذكار السیاب لطفله والإلحاح على ذكر الزوجة .
الوطن–القبر، بدأ هاجس الموت یلح على السیاب بدءا من غربته المكانیة باحثا عن الشفاء، وكان یرى فی الواقع الموضوعی ما یمده بأسباب الأمل أحیانا، وحین لم یجد شفاءه فی بیروت یمضی إلى لندن، وكأنه یمارس نوعا من خداع الذات، وحین ینظر إلى حاله بعین الحقیقة یجد الموت ماثلا إمام ناظریه، وقد تجسد ذلك فی قصیدته (امام باب الله) وفی الباب الثانی – بناء دلالات الوطن – الفصل الأول المعنون ب (بناء دلالات الوطن العام) أشار الباحث إلى أن قصائد النمط (الحر) التی جسدت دلالات الوطن العام لم تكن كلها على الدرجة نفسها من الإتقان الشعری، وبقی تجدید القالب أو التشكیل العام شكلیا فی كثیر منها، ولم یتحقق فیها ما یجعل بناءها قادرا على نسج دلالات شعریة یسهم البناء نفسه فی توجیه القارئ إلیها وأكثرها لم تختلف فی میلها إلى الخطابیة والتقریریة عن القصائد التقلیدیة.
وبین الدكتور المسعودی أن القصائد التی نحت منحى تجدیدیا یستند إلى وعی التجدید، والإخلاص لمتطلباته قلیلة قیاسا إلى القصائد التی أشیر إلیها، وأكثرها أهمیة المطولات (المومس العمیاء، حفار القبور، والمخبر) وعلى الرغم من الإطالة والزوائد والمیل إلى التفصیل– وهی ظواهر تشیع فی هذه القصائد على تفاوت فیما بینها، فإنها مثلت انجازا متمیزا فی تجربة السیاب الشعریة، ولكنها فیما یتصل بدلالة الأغلال لم تكن تشیر إلا إلى ملمح من ملامح هذه الدلالة،وهو الفقر، وان كانت عناصر بنائها تجسد بحدة صورة لواقع مظلم وترشح أسى ثقیلا سببه الفقر الذی یؤلف البؤرة السوداء التی تنطلق منها خیوط القصیدة لتنشر سوادها على اللغة، وفضائها فیبدو خانقا.
فالباحث اختار لمتابعة(دلالات الوطن العام) على قصیدة (حسناء الكوخ) لدلالة (الأغلال) و (حفار القبور) لدلالة (الثورة)، و(أنشودة المطر) لدلالة (المثال) وقد توصل فی تحلیله لقصیدة (حسناء الكوخ ) بأنها قصیدة توحی بالمعاناة فی حیاة الإنسان (الفتاة) والقهر الذی یرزح تحت ظله الوطن (الریف) یجعل القصیدة معبرة عن دلالة (الأغلال) وان هذه الدلالة سیاسیة ولیست شعریة بالنظر إلى القصیدة كاملة، وان رشحت بعض مقاطعها دلالات شعریة جزئیة توحی بواقع مكبل .
أما قصیدة (حفار القبور) فقد بین الباحث بأنها قصیدة تحقق تمیزها الدلالی فی فرادة موضوعها، بمستواه الواقعی، فان رمزیتها تنبعث من طبیعة الموضوع نفسه، إذ لا یمكن تصور أن یكون (حفار القبور) إنسانا یحتمله الواقع بصورته تلك، ومن هنا تجبر القصیدة قارئها على استغوارها للكشف عن بعد آخر لهذه الشخصیة، ولعالمها (المقبرة)، وقبول القصیدة لهذا التفسیر الرمزی یعد نجاحا فی مستوى البناء الفنی.
كما أن قراءتنا المقطع الأول تؤكد الالتحام العضوی بین الصورة والإیقاع، وحركة الزمن التی تركز حضور الموت فی لغة القصیدة ،لتترشح الدلالة التی تنسجم مع سیطرة الموت السیاسی، واختناق الحیاة فی واقع القصیدة.
وفی قصیدة (أنشودة المطر) یقف د. كریم المسعودی على معجم القصیدة وطغیان البعد الرومانسی، وان كانت مفرداتها تنتمی إلى المعجم التقلیدی (حمراء أو صفراء من أجنة الزهر)، والذی یبنی صورة ملونة نواتها كلمة (أجنة )، فالصورة السلبیة للوطن على الرغم مما فیها من قسوة أو ظلم فإنها تحمل فی أحشائها بذرة التغییر (الثورة) التی ما تزال هاجسا فی صورة جنین یختبئ فی قطرات المطر. فاشد صور الیأس تحمل فی ثنایاها بذور الأمل، إذ سیؤول الواقع إلى مستقبل ملئ بالخیر والنماء بالمطر الرامز للثورة .
وفی الفصل الثانی المعنون بـ(بناء دلالات وطن الذات) تناول الباحث قصائد المرحلة الأخیرة من إبداع السیاب، وهی مرحلة الغربة التی تمیزت قصائدها (بالغنائیة) والهموم (العاطفیة) حیث نحت منحى رومانسیا قوامه التعبیر.
وأشار إلى أن شعر هذه المرحلة كان اقل جودة وابتكارا، أو تركیزا وجرأة من مستوى قصائد دیوانه (أنشودة المطر)، فقد عاد البناء إلى التفكك وأصبح الاستخدام الأسطوری غیر ناجح، ومشوّها، ومجرد إظهار للمعرفة.
وبین أهم الظواهر الفنیة البارزة فی شعر الغربة المیل إلى المباشرة، والخطابیة إلى درجة تقربه أحیانا من النثر، وان من معالم نزوع هذا الشعر إلى المباشرة والخطابیة كثرة النداء وفعل الأمر إذ لا تكاد قصیدة تخلو منها، حیث نتلمس ذلك فی قصیدة (خذینی)وقصیدة (وصیة من محتضر) بوضوح :
یا صمت یا صمت المقابر فی شوارعها الحزینة
فیا الق النهار
كما لجأ الشاعر إلى الاستفهام لإشاعة جو من الخطابیة على شعره وقد رصد الباحث دلالات الوطن فی شعر هذه المرحلة، فوجدها تنحصر بالعراق– الطفولة، والعراق – المنزل، والعراق – القبر وتتلون بما كان دافعا لتحولات صورة الوطن فی رؤیة الشاعر، كالفقر، والمرض، والإحساس بالموت، وتكشف (المفردات) عن حدود هذه الرؤیة إذ تنحصر بالبحث عن (مكان) الشاعر، و(زمانه) و(أهله) وما یتصل به من ذكریات.
كما قام بتحلیل بناء القصائد التی تمثل دلالات وطن الذات، وهی (غریب على الخلیج) لدلالة (الطفولة)، و (إقبال واللیل) لدلالة (المنزل) و(جیكور أمی) لدلالة (القبر).
وقدم فی خاتمة الكتاب نتائج توصلاته والكشف عن منهجه التحلیلی فی أداء هذا البحث وأهمیته وتقدیم قراءة ناضجة لصورة الوطن فی شعر السیاب وحیاته الملیئة بالمواجع والمآسی.
یذكر أن هذا الكتاب صادر عن دار صفحات للدراسات والنشر فی دمشق، ویقع فی (215) صفحة من القطع الكبیر
+ نوشته شده در ۱۳۹۱/۰۴/۱۲ ساعت 15:18 توسط دكتر علي ضيغمي
|