الموت في الشعر العربي السوري المعاصر
بقلم: الدكتور ولید مشوّح ـــ محمد قرانیا
تأتی دراسة الموت فی الشعر العربی السوری المعاصر للدكتور ولید مشوّح لتكمل نقصاً فی هذا الموضوع فی المكتبة العربیة، بعد تناقص عدد نقّاد الشعر الحدیث ودارسیه، ولعل أهمیة الدراسة تَبْرز فی التركیز على حساسیة هذا الموضوع الذی غدا فیه (الموت) قد اتخذ صوراً مادیة ومعنویة، وعقدیة، وصار مادة للإبداع، وحافزاً للإلهام، نظراً لما فی مدلولاته من خصبٍ خیالی، وغنى عاطفی، ومضامین فنیة.
یحدّد الباحث الفترة الزمنیة التی تشملها الدراسة بأربعة عقود تبدأ من عام 1950 وتنتهی عام 1999، وتتعرّض لشعر كوكبةٍ كبیرة من الشعراء السوریین الذین تتوسّم فیهم الدراسة مایُغنی الموضوع الذی یدرس الظاهرة لدى أبرز الشعراء -حسب تعبیر المؤلف- ضمن المكان والزمان والمعتقد الدینی، ومن خلال المنهج الوصفی التحلیلی مع التعریج على المناهج النفسیة والبنیویة والتاریخیة.
تأتی دراسة الموت فی الشعر العربی السوری المعاصر للدكتور ولید مشوّح لتكمل نقصاً فی هذا الموضوع فی المكتبة العربیة، بعد تناقص عدد نقّاد الشعر الحدیث ودارسیه، ولعل أهمیة الدراسة تَبْرز فی التركیز على حساسیة هذا الموضوع الذی غدا فیه (الموت) قد اتخذ صوراً مادیة ومعنویة، وعقدیة، وصار مادة للإبداع، وحافزاً للإلهام، نظراً لما فی مدلولاته من خصبٍ خیالی، وغنى عاطفی، ومضامین فنیة.
یحدّد الباحث الفترة الزمنیة التی تشملها الدراسة بأربعة عقود تبدأ من عام 1950 وتنتهی عام 1999، وتتعرّض لشعر كوكبةٍ كبیرة من الشعراء السوریین الذین تتوسّم فیهم الدراسة مایُغنی الموضوع الذی یدرس الظاهرة لدى أبرز الشعراء -حسب تعبیر المؤلف- ضمن المكان والزمان والمعتقد الدینی، ومن خلال المنهج الوصفی التحلیلی مع التعریج على المناهج النفسیة والبنیویة والتاریخیة.
بدأ الدراسة بمدخلٍ عام تضع القارئ وجهاً لوجه أمام مفهومی الحیاة والموت ثم تستعرض آراء عددٍ من كتاب الشرق والغرب، تقف بعدها عند مصطلح إشكالیة الموت، فتمیّز بین الإشكال الذی هو صفة تطلق على كل شیءٍ یحتوی فی داخل ذاته على تناقضٍ وتقابلٍ فی الاتجاهات، وعلى تعارضٍ عملی، وبین المشكلة التی تعنی طلب هذه الإشكالیة بوصفها شیئاً یحاول القضاء علیه، حتى تتحول إلى شعورٍ بالألم الذی یحدثه هذا الطابع الإشكالی، ویعمل على رفع هذا الطابع عنه وإزالته.
ثم یبین الباحث انشغال الفكر الإنسانی بالذات الإنسانیة من خلال الوجود والموت والعدم، ینتقل على إثرها إلى ظاهرة الموت فی الأساطیر الشرقیة، حیث یسلّط الضوء على ملحمة جلجامش، ثم یأتی على نظرة عرب الجاهلیة، ورحلة العقل العربی من الأصنام إلى القرآن الكریم مروراً بالجاهلیة والیهودیة والنصرانیة والوثنیة والحنفیة والزرادشتیة والصابئة والمندائیة ثم العصر الإسلامی ومایلیه.
یتألف الكتاب من أربعة فصولٍ وخاتمة. خصّص الفصل الأول لدراسة إشكالیة الموت وقضایاها فی الشعر السوری المعاصر، مقدماً لذلك بتمهیدٍ عن ثورة الشكل الشعری التی كانت نتیجةً حتمیةً لمعاناة الشعراء المعاصرین، وثمراتٍ لقلقهم النفسی، حیث ظلت القصیدة التی أنتجها جیل الثمانینیات تتأرجح بین الولادة، وحواف قبرها، مع توفیر كَفَنٍ لجدثها، مستوردٍ من الغرب، لأن شعر الثمانینیات والتسعینیات، یُدخل الشعرَ غیاهب المتاهات، ومارافقها من تجریبٍ وتعقیدٍ وتفكیك وغموضٍ معنوی وفوضى عروضیة ونشازٍ موسیقی، آثر النقدُ تجاهها الصمتُ، فبدأ الشعر الكلاسیكی ینهض من جدید، كردّ فعلٍ معاكس على ماخسره خلال معركته فی الستینیات والسبعینیات.
ویرى الباحث أن الشعر السوری اتكأ على المقولات التی أجاب عنها الوجودیون حول الموت حین عبّروا عما یواجهه الإنسان من قلق، وعبثیة فی الحیاة المعاصرة، وجزعِ الوجود البشری وحنین الذات إلى المطلق، لأن الشاعر إنسان لایدرك معنى الحیاة إذا لم یعرف معنى الموت. لذلك وجدناه یكتب بمداد حضارته، وأراد أن ینطلق شعره متمیزاً فی دنیا الفكر والتأمل والفلسفة، وجعل للموت رموزاً متعددةً منها (اللیل) كما هو عند علی الناصر:
أقبل اللیل باتئاد ممضّ
واشتیاقی لها قبل الأناةِ
ظلمةَ اللیل أسرعی وتمطی
واسترینی بأقتم الظلماتِ
ظلمةُ أنتِ نوری المفدّى
ودلیلٌ إلى حمى اللذاتِ
یاحبوری ویامسّرة روحی
جلّل اللیل عالم الأمواتِ
وبعد دراسة نماذج متعدّدة لرموز الموت ینتقل الباحث فی الفصل الثانی لدراسة موضوعة الموت فی الشعر، وطرق تناولها، وتحلیل أسالیبها التی تنوّعت حسب ثقافة الشاعر ومعتقده والمؤثرات الفلسفیة والثقافیة الأجنبیة والتراثیة، وفهمه للرمز والأسطورة، ورأى أن الموت قد یصبح هاجساً لدى الشعراء، كما هو الحال عند علی الجندی الذی وجد كل شیءٍ یموت، الزمان والمكان والطبیعة والمتعة:
وأنا یاجبل الریان منذور لتصویر المشاهدْ
شاهداً أبكی على قبرٍ علیَّ القبرُ شاهدْ
أرسم الأشجار والأفكار والأوجه والنسمه
والینبوع والسیف ولمع البرق والدمعة
واللون الدمائی وأحلام المجاهد
ویعمد أدونیس منذ باكورة أشعاره فی (قصائد أولى) إلى الحوار بین ذات الشاعر والموت:
یضمنا الموت إلى صدره/ مغامراً زاهداً
یحملنا سراً على سره/ یجعل من كثرتنا واحدا
وكثیرة هی المیتات الشعریة التی أغناها الباحث بالشواهد والدراسة.
وخصّص الفصل الثالث لتبیان الملامح العامة المكتسبة، أی تماهی الأنا مع الآخر فی المنجز الشعری، لذلك كثرت الأسئلة والأجوبة فی نصوص شعریة عن الموت الذی یرید أو یتصوّره أو یأمله أو یتأمله.
ولما كان الشاعر المعاصر دنیویاً، بسبب ابتعاده عن الیقین نظراً لتسارع الزمن وتحقّق المعطیات الحضاریة المدهشة، وتعدّد الخیارات الدنیویة، وضیاع الأسباب الوجودیة، نجده یقف أمام هذه المعطیات الحضاریة مذهولاً، حیث ینتفی التفرّد اللافت فی الصباغات الفنیة نظراً لانفتاح الظروف وتشابهها، وانغلاق الزمان ومشاعیة المكان ومادیة الوسیلة العلائقیة، نتیجة لابتداع العقل الإنسانی للتكنولوجیا المعقدة التی وضعت الإنسان فی خدمة الزمن، بینما كان یعیش بعكس ذلك المفهوم، حیث كان الزمن فی خدمة الإنسان.
وتنزاح لفظة الموت إلى معانٍ مجازیة فی الكتب السماویة، فتفتح أمام الشاعر آفاقاً ذهنیة مختلفة، وقد كان لها فی القرآن الكریم دلالاتها المعنویة كالموت الوجودی فی قوله تعالى: "أعمالهم كرمادٍ اشتدّتْ به الریح فی یومٍ عاصف" والموت المعنوی فی قوله تعالى: "ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت لیقولن الذین كفروا إنْ هذا إلاّ سحرٌ مبین" والموت الیقین كقوله تعالى: "وقالوا إذا كنّا عظاماً ورفاةً، أ إنا لمبعوثون خلقاً جدیداً".
أما الشعراء فقد ابتعدوا عن الدلالة المعنویة الشمولیة كما وردت فی الكتب السماویة بزعم المعاصرة، وهذا قناع استعمله الشعراء لدفع قلق الموت عن ذواتهم، لذا یمكن القول إن الشعر یموت فی حیاتنا كل یومٍ، ویموت الشعراء، فالشاعر أمل دنقل -على سبیل المثال- فی الغرفة رقم (6) فی أحد مشافی القاهرة، ینتظر الموت، وكذلك انتظره بدر شاكر السیاب فی منفاه، وكانت حیاة الشاعر عبد السلام عیون السود القصیرة مأساةً كلها، جلس فیها ینتظر النهایة:
أنا یاصدیقة مرهق حتى العیاء فكیف أنتِ
وحدی أمام الموت لا أحد سوى قلقی وصمتی
ثم ینتقل الباحث فی الفصل الرابع إلى تحلیل لغة الموت فی النصّ الشعری من خلال نماذج التناص، ویتوقف عند التجوهر الصوفی فی القصیدة، واتكائه على عاملین بارزین:
الأول: عامل اللغة التی تقوم على تقلیب الحروف فی اللفظة الواحدة، وإحالتها إلى مقابلاتٍ رقمیة، تحیل بدورها إلى القرآن الكریم، وقصص الأولین.
والثانی، عامل الفلسفة التی تقوم على استواء الإیمان داخل المبدع، وتصدیره إلى الخارج، محمولاً بوساطةٍ لفظیةٍ توحی بتشكیلٍ فسیفسائی للمعنى البرانی، وذلك لدفع المتلقی للغوص. إذْ یطمح إلى ترابط الموت والحیاة، لإیجاد صیغةٍ یقینیةٍ جدیدةٍ تترك شعوراً جدیداً فی الذات، كبدیلٍ عن القلق الوجودی، ویشكل فضاؤه كوناً شعریاً أقامته لغة تشكلت أصلاً عن رؤى فكریة، بأنساقٍ فلسفیةٍ لها تراتیبیة زمانیة، رسمت تاریخها على أساس تطورها التاریخی، ومادتها الفلسفیة.
وبعد تقدیم رؤیة الموت فی الشعر الحدیث والتقلیدی، یقف عند الشعر الرومانسی الذی أحسّ فیه الشاعر بتخلی الله عنه، على عكس الشاعر التقلیدی الذی أحسّ أن الله حاضرٌ فی الموت الحضاری، ولذلك یصبح الموت أكثر التصاقاً بشخصیة الشاعر المعاصر نتیجة لازدیاد عُقَد الحیاة.
ثم یقف الباحث عند المؤثرات التراثیة والأجنبیة فی قصیدة الموت السوریة، ففی التراث حضر اللفظ القرآنی، أو المعنى أو الصورة، أو القصة أو المشهد، لیس تعبیراً عن إیمانٍ، وإنما لدفع قلقٍ وجودی، أو لبعثرة الترتیب النفسی أو التحدی المفترض الاعتقادی، أو لمجرد الإعلان الاحتجاجی على الراهن النفسی، الذی یعصف بطمأنینة الشاعر.
إن شعر أدونیس یحفل بالتراث، برؤیةٍ عدمیةٍ توحی بالموت، مع نزعةٍ صوفیة، تبسط بصماتها على فكره وشعره، وتظهر تناصاتٍ كثیرة فی قصائده كقوله:
صرت أنا المرآة
عكست كل شیءٍ
وهو یقتفی البسطامی فی قوله:
كنت لی المرآة فصرت أنا المرآة.
وتأثر أدونیس بالنفری والآثار المثنویة والمانویة والمسیحیة والبوذیة والزرادشتیة.
وأَنِسَ نذیر العظمة إلى الأثر بغیة بعث الحیاة فیه، فاستعمله بصورةٍ مزدوجةٍ، وبوجهین متباعدین زمنیاً، قدیمٍ موغل فی القدم، وتاریخی یرمز إلى (الآن) المعاصرة.
وتجلّى محمد عمران برؤیته التراثیة، وعمل على تصعیده إلى درجة الشفافیة، ووظفه لخدمة غرضه متأثراً بشعراء الصوفیة، النفری، والبسطامی، والحلاج وسواهم، كما تأثر أیضاً بالسیر الشعبیة التی أدان بها اغتراب الروح وموتها.
ویخلط فایز خضور الأسطورة بالخرافة بالحكایة، ویوحّد الزمن بینها، لیضعها فی خدمة الفكرة التی یریدها، والتی تدین موت الحاضر.
أما المؤثرات الأجنبیة فقد اقتصر تأثیرها على بعض جیل الروّاد، ولكنها لاترتقی إلى مدى تأثیرات التراث على القصیدة الحدیثة، فنزار قبانی تأثر بجاك بریفیر كما فی قوله:
أخرج من معطفه الجریدة /وعلبة الثقاب
دون أن یلاحظ اضطرابی
ودونما اهتمام/ تناول السكر من أمامی
ذوّب فی الفنجان قطعتین
ذوّبنی/ ذوّب قطعتین
وبعد لحظتین/ ودون أن یرانی
ویعرف الشوق الذی اعترانی
تناول المعطف من أمامی/ وغاب فی الزحامِ.
مخلفاً وراءه الجریدة/ مثلی أنا وحیدة
وهذا یتناصّ مع جاك بریفیر الذی یقول:
صبّ القهوة/ فی الفنجان/ صبّ الحلیب/ فی فنجان القهوه
وضع السكر/ فی القهوة بالحلیب/ حرّك/ بالملعقة الصغیره
وحطّ الفنجان/ دون أن یكلمنی/ أشعل سیكاره
عمل دوائر/ دون أن ینظر إلیّ/ نهض
وضع قبعته على رأسه/ ارتدى معطف الشتاء
لأن المطر كان یهطل/ وذهب تحت المطر/ دون كلام
دون أن ینظر إلیّ/ وأنا أمسكت/ رأسی بیدی/ وبكیت...
ثم یورد أمثلةً لتأثر نزار قبانی ببودلیر، وتأثر أدونیس ببول فالیری وسان جون بیرس وبودلیر وسارتر وبونج، وتأثر علی الجندی برامبو وسان جون بیرس حتى لیبدو هذا الجانب من موضوع المؤثرات من أطرف موضوعات الكتاب.
لكن مایلاحظه القارئ أن هذا الحشد من الشعراء السوریین لم یكن الأبرز دائماً كما جاء فی المقدمة، كما أن اعتذار المؤلف عن عدم إمكانیة استیعاب جمیع الشعراء الذین شهدوا فترة الدراسة أو شهدوا جزءاً منها قد لایسامحه فیه كثیر ممن رحلوا أو ممن لایزالون على قید الحیاة، أطال الله أعمارهم ورحم من سبقهم- ونحن نورد أسماء بعضهم للذكرى من أمثال: أنور العطار وعمر أبو ریشة وعمر بهاء الأمیری وعمر أبو قوس وأنور عدی وأنور الجندی وعفیفة الحصنی ومدحت عكاش ومیخائیل الله دریدی وعبد الجبار الرحبی وبدوی الجبل وندیم محمد وفاطمة حداد وعمر یحیى وعلی دمر وسعید قندقجی ومحمد منذر لطفی ومصطفى النجار ومحمد الفراتی وتوفیق قنبر وعدنان قیطاز وعبد الوهاب الشیخ خلیل وحامد حسن ونبیهة حداد وسلیمان العیسى وناصر الخوری وعبد المجید عرفه وسواهم، لكن ذلك لاینقص من قیمة الكتاب الذی یُعَدّ متمیزاً فی بابه وأسلوبه.
ثم یبین الباحث انشغال الفكر الإنسانی بالذات الإنسانیة من خلال الوجود والموت والعدم، ینتقل على إثرها إلى ظاهرة الموت فی الأساطیر الشرقیة، حیث یسلّط الضوء على ملحمة جلجامش، ثم یأتی على نظرة عرب الجاهلیة، ورحلة العقل العربی من الأصنام إلى القرآن الكریم مروراً بالجاهلیة والیهودیة والنصرانیة والوثنیة والحنفیة والزرادشتیة والصابئة والمندائیة ثم العصر الإسلامی ومایلیه.
یتألف الكتاب من أربعة فصولٍ وخاتمة. خصّص الفصل الأول لدراسة إشكالیة الموت وقضایاها فی الشعر السوری المعاصر، مقدماً لذلك بتمهیدٍ عن ثورة الشكل الشعری التی كانت نتیجةً حتمیةً لمعاناة الشعراء المعاصرین، وثمراتٍ لقلقهم النفسی، حیث ظلت القصیدة التی أنتجها جیل الثمانینیات تتأرجح بین الولادة، وحواف قبرها، مع توفیر كَفَنٍ لجدثها، مستوردٍ من الغرب، لأن شعر الثمانینیات والتسعینیات، یُدخل الشعرَ غیاهب المتاهات، ومارافقها من تجریبٍ وتعقیدٍ وتفكیك وغموضٍ معنوی وفوضى عروضیة ونشازٍ موسیقی، آثر النقدُ تجاهها الصمتُ، فبدأ الشعر الكلاسیكی ینهض من جدید، كردّ فعلٍ معاكس على ماخسره خلال معركته فی الستینیات والسبعینیات.
ویرى الباحث أن الشعر السوری اتكأ على المقولات التی أجاب عنها الوجودیون حول الموت حین عبّروا عما یواجهه الإنسان من قلق، وعبثیة فی الحیاة المعاصرة، وجزعِ الوجود البشری وحنین الذات إلى المطلق، لأن الشاعر إنسان لایدرك معنى الحیاة إذا لم یعرف معنى الموت. لذلك وجدناه یكتب بمداد حضارته، وأراد أن ینطلق شعره متمیزاً فی دنیا الفكر والتأمل والفلسفة، وجعل للموت رموزاً متعددةً منها (اللیل) كما هو عند علی الناصر:
أقبل اللیل باتئاد ممضّ
واشتیاقی لها قبل الأناةِ
ظلمةَ اللیل أسرعی وتمطی
واسترینی بأقتم الظلماتِ
ظلمةُ أنتِ نوری المفدّى
ودلیلٌ إلى حمى اللذاتِ
یاحبوری ویامسّرة روحی
جلّل اللیل عالم الأمواتِ
وبعد دراسة نماذج متعدّدة لرموز الموت ینتقل الباحث فی الفصل الثانی لدراسة موضوعة الموت فی الشعر، وطرق تناولها، وتحلیل أسالیبها التی تنوّعت حسب ثقافة الشاعر ومعتقده والمؤثرات الفلسفیة والثقافیة الأجنبیة والتراثیة، وفهمه للرمز والأسطورة، ورأى أن الموت قد یصبح هاجساً لدى الشعراء، كما هو الحال عند علی الجندی الذی وجد كل شیءٍ یموت، الزمان والمكان والطبیعة والمتعة:
وأنا یاجبل الریان منذور لتصویر المشاهدْ
شاهداً أبكی على قبرٍ علیَّ القبرُ شاهدْ
أرسم الأشجار والأفكار والأوجه والنسمه
والینبوع والسیف ولمع البرق والدمعة
واللون الدمائی وأحلام المجاهد
ویعمد أدونیس منذ باكورة أشعاره فی (قصائد أولى) إلى الحوار بین ذات الشاعر والموت:
یضمنا الموت إلى صدره/ مغامراً زاهداً
یحملنا سراً على سره/ یجعل من كثرتنا واحدا
وكثیرة هی المیتات الشعریة التی أغناها الباحث بالشواهد والدراسة.
وخصّص الفصل الثالث لتبیان الملامح العامة المكتسبة، أی تماهی الأنا مع الآخر فی المنجز الشعری، لذلك كثرت الأسئلة والأجوبة فی نصوص شعریة عن الموت الذی یرید أو یتصوّره أو یأمله أو یتأمله.
ولما كان الشاعر المعاصر دنیویاً، بسبب ابتعاده عن الیقین نظراً لتسارع الزمن وتحقّق المعطیات الحضاریة المدهشة، وتعدّد الخیارات الدنیویة، وضیاع الأسباب الوجودیة، نجده یقف أمام هذه المعطیات الحضاریة مذهولاً، حیث ینتفی التفرّد اللافت فی الصباغات الفنیة نظراً لانفتاح الظروف وتشابهها، وانغلاق الزمان ومشاعیة المكان ومادیة الوسیلة العلائقیة، نتیجة لابتداع العقل الإنسانی للتكنولوجیا المعقدة التی وضعت الإنسان فی خدمة الزمن، بینما كان یعیش بعكس ذلك المفهوم، حیث كان الزمن فی خدمة الإنسان.
وتنزاح لفظة الموت إلى معانٍ مجازیة فی الكتب السماویة، فتفتح أمام الشاعر آفاقاً ذهنیة مختلفة، وقد كان لها فی القرآن الكریم دلالاتها المعنویة كالموت الوجودی فی قوله تعالى: "أعمالهم كرمادٍ اشتدّتْ به الریح فی یومٍ عاصف" والموت المعنوی فی قوله تعالى: "ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت لیقولن الذین كفروا إنْ هذا إلاّ سحرٌ مبین" والموت الیقین كقوله تعالى: "وقالوا إذا كنّا عظاماً ورفاةً، أ إنا لمبعوثون خلقاً جدیداً".
أما الشعراء فقد ابتعدوا عن الدلالة المعنویة الشمولیة كما وردت فی الكتب السماویة بزعم المعاصرة، وهذا قناع استعمله الشعراء لدفع قلق الموت عن ذواتهم، لذا یمكن القول إن الشعر یموت فی حیاتنا كل یومٍ، ویموت الشعراء، فالشاعر أمل دنقل -على سبیل المثال- فی الغرفة رقم (6) فی أحد مشافی القاهرة، ینتظر الموت، وكذلك انتظره بدر شاكر السیاب فی منفاه، وكانت حیاة الشاعر عبد السلام عیون السود القصیرة مأساةً كلها، جلس فیها ینتظر النهایة:
أنا یاصدیقة مرهق حتى العیاء فكیف أنتِ
وحدی أمام الموت لا أحد سوى قلقی وصمتی
ثم ینتقل الباحث فی الفصل الرابع إلى تحلیل لغة الموت فی النصّ الشعری من خلال نماذج التناص، ویتوقف عند التجوهر الصوفی فی القصیدة، واتكائه على عاملین بارزین:
الأول: عامل اللغة التی تقوم على تقلیب الحروف فی اللفظة الواحدة، وإحالتها إلى مقابلاتٍ رقمیة، تحیل بدورها إلى القرآن الكریم، وقصص الأولین.
والثانی، عامل الفلسفة التی تقوم على استواء الإیمان داخل المبدع، وتصدیره إلى الخارج، محمولاً بوساطةٍ لفظیةٍ توحی بتشكیلٍ فسیفسائی للمعنى البرانی، وذلك لدفع المتلقی للغوص. إذْ یطمح إلى ترابط الموت والحیاة، لإیجاد صیغةٍ یقینیةٍ جدیدةٍ تترك شعوراً جدیداً فی الذات، كبدیلٍ عن القلق الوجودی، ویشكل فضاؤه كوناً شعریاً أقامته لغة تشكلت أصلاً عن رؤى فكریة، بأنساقٍ فلسفیةٍ لها تراتیبیة زمانیة، رسمت تاریخها على أساس تطورها التاریخی، ومادتها الفلسفیة.
وبعد تقدیم رؤیة الموت فی الشعر الحدیث والتقلیدی، یقف عند الشعر الرومانسی الذی أحسّ فیه الشاعر بتخلی الله عنه، على عكس الشاعر التقلیدی الذی أحسّ أن الله حاضرٌ فی الموت الحضاری، ولذلك یصبح الموت أكثر التصاقاً بشخصیة الشاعر المعاصر نتیجة لازدیاد عُقَد الحیاة.
ثم یقف الباحث عند المؤثرات التراثیة والأجنبیة فی قصیدة الموت السوریة، ففی التراث حضر اللفظ القرآنی، أو المعنى أو الصورة، أو القصة أو المشهد، لیس تعبیراً عن إیمانٍ، وإنما لدفع قلقٍ وجودی، أو لبعثرة الترتیب النفسی أو التحدی المفترض الاعتقادی، أو لمجرد الإعلان الاحتجاجی على الراهن النفسی، الذی یعصف بطمأنینة الشاعر.
إن شعر أدونیس یحفل بالتراث، برؤیةٍ عدمیةٍ توحی بالموت، مع نزعةٍ صوفیة، تبسط بصماتها على فكره وشعره، وتظهر تناصاتٍ كثیرة فی قصائده كقوله:
صرت أنا المرآة
عكست كل شیءٍ
وهو یقتفی البسطامی فی قوله:
كنت لی المرآة فصرت أنا المرآة.
وتأثر أدونیس بالنفری والآثار المثنویة والمانویة والمسیحیة والبوذیة والزرادشتیة.
وأَنِسَ نذیر العظمة إلى الأثر بغیة بعث الحیاة فیه، فاستعمله بصورةٍ مزدوجةٍ، وبوجهین متباعدین زمنیاً، قدیمٍ موغل فی القدم، وتاریخی یرمز إلى (الآن) المعاصرة.
وتجلّى محمد عمران برؤیته التراثیة، وعمل على تصعیده إلى درجة الشفافیة، ووظفه لخدمة غرضه متأثراً بشعراء الصوفیة، النفری، والبسطامی، والحلاج وسواهم، كما تأثر أیضاً بالسیر الشعبیة التی أدان بها اغتراب الروح وموتها.
ویخلط فایز خضور الأسطورة بالخرافة بالحكایة، ویوحّد الزمن بینها، لیضعها فی خدمة الفكرة التی یریدها، والتی تدین موت الحاضر.
أما المؤثرات الأجنبیة فقد اقتصر تأثیرها على بعض جیل الروّاد، ولكنها لاترتقی إلى مدى تأثیرات التراث على القصیدة الحدیثة، فنزار قبانی تأثر بجاك بریفیر كما فی قوله:
أخرج من معطفه الجریدة /وعلبة الثقاب
دون أن یلاحظ اضطرابی
ودونما اهتمام/ تناول السكر من أمامی
ذوّب فی الفنجان قطعتین
ذوّبنی/ ذوّب قطعتین
وبعد لحظتین/ ودون أن یرانی
ویعرف الشوق الذی اعترانی
تناول المعطف من أمامی/ وغاب فی الزحامِ.
مخلفاً وراءه الجریدة/ مثلی أنا وحیدة
وهذا یتناصّ مع جاك بریفیر الذی یقول:
صبّ القهوة/ فی الفنجان/ صبّ الحلیب/ فی فنجان القهوه
وضع السكر/ فی القهوة بالحلیب/ حرّك/ بالملعقة الصغیره
وحطّ الفنجان/ دون أن یكلمنی/ أشعل سیكاره
عمل دوائر/ دون أن ینظر إلیّ/ نهض
وضع قبعته على رأسه/ ارتدى معطف الشتاء
لأن المطر كان یهطل/ وذهب تحت المطر/ دون كلام
دون أن ینظر إلیّ/ وأنا أمسكت/ رأسی بیدی/ وبكیت...
ثم یورد أمثلةً لتأثر نزار قبانی ببودلیر، وتأثر أدونیس ببول فالیری وسان جون بیرس وبودلیر وسارتر وبونج، وتأثر علی الجندی برامبو وسان جون بیرس حتى لیبدو هذا الجانب من موضوع المؤثرات من أطرف موضوعات الكتاب.
لكن مایلاحظه القارئ أن هذا الحشد من الشعراء السوریین لم یكن الأبرز دائماً كما جاء فی المقدمة، كما أن اعتذار المؤلف عن عدم إمكانیة استیعاب جمیع الشعراء الذین شهدوا فترة الدراسة أو شهدوا جزءاً منها قد لایسامحه فیه كثیر ممن رحلوا أو ممن لایزالون على قید الحیاة، أطال الله أعمارهم ورحم من سبقهم- ونحن نورد أسماء بعضهم للذكرى من أمثال: أنور العطار وعمر أبو ریشة وعمر بهاء الأمیری وعمر أبو قوس وأنور عدی وأنور الجندی وعفیفة الحصنی ومدحت عكاش ومیخائیل الله دریدی وعبد الجبار الرحبی وبدوی الجبل وندیم محمد وفاطمة حداد وعمر یحیى وعلی دمر وسعید قندقجی ومحمد منذر لطفی ومصطفى النجار ومحمد الفراتی وتوفیق قنبر وعدنان قیطاز وعبد الوهاب الشیخ خلیل وحامد حسن ونبیهة حداد وسلیمان العیسى وناصر الخوری وعبد المجید عرفه وسواهم، لكن ذلك لاینقص من قیمة الكتاب الذی یُعَدّ متمیزاً فی بابه وأسلوبه.
+ نوشته شده در ۱۳۹۱/۰۴/۲۰ ساعت 18:58 توسط دكتر علي ضيغمي
|