قراءة تحليلة في قصيدة (ستسافرين غداً) للشاعر العراقي يحيى السماوي
تصوير الذات المتسامية :
القصيدة
ستسافرين غداً ؟
إذن مانفعُ حنجرتي ؟
سأدخلُ كهف صمتي
ريثما تخضرٌ صحرائي
بوقع خطى إيابكْ
لاعودَ ثابتة ً سؤالاً حائراً
كيف الوصولُ إلى سحابكْ
إنْ قد عجزتُ
من الوصول إلى ترابكْ
سأنيمُ حنجرتي
فما معنى الغناء
بلا ربابكْ
***********
لابدَ من حلم ٍ
لأعرفَ
أنني قد نمتُ ليلي
في غيابكْ …..
ألان يكتملُ انتصاري
بأندحار غرور اشجاري
امام ظلال غابكْ
الان ارفع استسلام قلبي
جهزي قيدي ….
خذي بغدي
لأختتمَ التشردَ بالإقامةِِِ
خلف بابكْ
جفناً تابدهُ الظلامُ
فجاء ينهلُ من شهابكْ
وفماً توضأ بالدعاء
لعل ثغركِ سوفَ يهتفُ لي
((هلابكْ))
لازال في البستان متسعٌ لناركْ
فاحطبي شجري
عسى جمري يذيبُ جليدَ ظنكِ
وارتيابكْ
إني ليغنيني قليلكِ عن كثير الاخرياتِ
فلا تلومي ظامئاً هجَرَ النميرَ
وجاء يستجديكِ كأساً من سرابكْ …
فإذا سقطتُ
مضرجاً بلظى اشتياقي
كفنيني حينَ تأتلقُ النجومُ
بثوبِ عرسٍ من ثيابكْ
واستمطري لي في صلاتكِ
ماء مغفرةٍ
فقد كتمَ الفؤادُ السرََ
لولا أن شعري قد وشى بكْ
في البدء اقول ان القصيدة تمثل حالة متقدمة من حالات الوجد الانساني الذي يتحول فيه الشاعر الى عاشق صبٍ ترتفع به الصبابة الى اعلى درجات العشق والهيام فيستحيل عاشقاً صوفياً يمنح كل شيء ويرضى بالقليل ممن يحب واذا مانظرنا الى عنوان القصيدة (( ستسافرين غداً )) نجد أن الشاعر كرره فجعله مطلع قصيدته وارى أن اقف هنا لأبين أن الشاعر اعتمد صيغة التساؤل بوساطة حرف (السين ) الذي اوصله بالجملة الفعلية ( تسافرين ) فشكل بذلك تساؤلاً استنكارياً مرده أن الشاعر يعلم أن السفر حاصل غداً ولكنه يتمنى لو أنه لايحصل اما تيقنه من حالة حصوله فقد برره الاستفهام الاستنكاري المؤسس بالجملة الفعلية (ستسافرين ) الدالة على حدوث وتغير يتمثل في النتائج التي سيسببها السفر على المستوى الاجرائي فضلاً على أن تكرير جملة الاستفهام الاستنكاري يتضمن على المستوى الدلالي التمني بعدم حصول السفر أما حالات الحدوث والتغيير التي ذكرتها فالشاعر يأتي لذكرها بعد مطلع قصيدته فيجعلها تشكل المقطع الاول منها فيقول : ستسافرين غداً ؟ / اذن مانفع حنجرتي ؟ هنا يجيب الشاعر على الاستفهام الاستنكاري بحرف الجواب والجزاء ( اذن ) ثم ياتي بالاستفهام مرة اخرى بوساطة اداة الاستفهام الاسمية (ما) لتكون الغاية من حرف الجزاء (اذن ) قد تحققت هنا فيكون السفر مجزياً أي مساوياً الى انتفاء وجود الحنجرة اذ لاغناء في السفر ؟ ستسافرين غداً ؟/ اذن مانفع حنجرتي ان لاجدوى وجود الحنجرة القى بظلاله على هذا البلبل المغرد على المستوى النفسي فجعله يقول سأدخل كهف صمتي /
هنا يستعمل الشاعر حرف الاستقبال ( السين ) ويدخله على الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال ليثبت عدم جدوى الحنجرة على المستوى الزمني .. وهنا يلعب المستوى النفسي دوره في عملية التشكيل الشعري لتأكيد حالة الاغتراب النفسي المرتفعة عند الشاعر ويتجلى ذلك بوضوح في هذا التشكيل الشعري :
سأدخل كهف صمتي / ذلك أن الشاعراعتمد الاستعارة المكنية باضافة ماهو محسوس ( كهف ) الى ماهو مجر( الصمت ) فجعل للصمت مكاناً ليدخله هو ولكي يرتفع بمديات هذا الصمت جعل ذلك المكان كهفاً ..
أن حالة الصمت هذه لم
يجعلها الشاعر مفتوحة على المستوى الزمني بل قرنها بعودة من يحب اذ يقول (
ريثما تخضر صحرائي ) وقد مثل ذلك على المستوى الزمني ظرف الزمان (ريثما)
الذي يشي بالزمن المحدد من حيث ارتباطه بالفعل المضارع (تخضر) الذي يتضمن
مستويين من مستويات الدلالة هما :المستوى اللوني والمستوى الزمني لقد حدد
الشاعر الزمن هنا من خلال تشكيله لصورة لونية حسية بصرية قرنها بصورة حسية
سمعية حركية اذ يقول :
( ريثما تخضر صحرائي / بوقع خطى ايابك )
لقد استعمل الشاعر هنا مايمكن ان نسميه ( المعادل التبادلي ) حيث ابدل
الماء وسيلة الاخضرار بوقع خطى الاياب وفي هذا اشارة كنائية عن طيب الخاطر
وبهجة النفس .
واذ تتسامى صورة المحبوب لدى الشاعر
يعود مرة اخرى ليتحول هو الى سؤالٍ حائرٍ لايهتدى الى جوابه اذ يقول لأعود
ثابتةً سؤالاً حائراً كيف الوصول الى سحابك / أن قد عجزت / عن الوصول الى
ترابك ؟
هنا تتشكل صورة المحبوب على وفق مستويين
من مستويات الطبيعة المكانية : يمثل المستوى الاول الارض بدلالة التراب
ويمثل المستوى الثاني المستوى الفوقي بدلالة السحاب وعلى وفق درجة الابتعاد
بينهما يحدد الشاعر مديات مشاعره وقدرته على بلوغ من يحب ذلك انه لم يتمكن
من الوصول اليه وهو يبصره موجودا على الارض فكيف الوصول اليه وقد علا وبعد
. ثم يرجع البلبل الى صوته ممثلاً باداته ( الحنجرة ) فيعود الى اسكاتها
مرة اخرى أذ يقول : سأنيم حنجرتي / وهنا يرسم الشاعر صورة تجريدية بالاسلوب
الاستعاري تأتت من اسناد ماهو مجرد ( النوم ) الى ماهو محسوس ( الحنجرة )
ويعلل الشاعر سبب ذلك بقولــــــــــــــــــــــــــــــــــه :
فما معنى الغناء / بلا ربابكْ . وفي هذا اشارة كنائية عن عدم جدوى الغناء لعدم وجود المحبوب مستعاضاً عنه بربابته الاداة الموسيقية تجانساً مع الحنجرة اداةً للغناء وهنا لابد من الاشارة الى ان الشاعر كان موفقاً على المستوى الصوتي في رسم هذه الصورة السمعية . وإذ يقول الشاعر : لابد من حلم / لأعرف انني قد نمت ليلي / في غيابك …. هنا يؤكد حالة حضور الحبيب الغائب بطريقة الاستحضار غير المنقطع .. المتواصل نهاراًٍ وليلاً وهو وأن لم يشر الى الاستذكار النهاري صراحةً فقد أكد حصوله ضمناً من خلال المستوى الدلالي للاستذكار الليلي , وتحليل ذلك أنه يستذكره في الليل وهو وقت الخلود الى النوم الذي جافاه هو من اجل استمرار حالة الاستحضار التذكري واذا ما حصل ان غلبه النوم فلابد من معادل موضوعي يستعيض به عن هذا الوقت المقتطع جبراً وهذا المعادل هو الحلم بمن يحب .. ذلك ان حصول الحلم يحمل دلالة حصول النوم ونعود فنقول أذا كان الشاعر يستذكر من يحب ليلاً واذا نام فهو يحلم به فمن المؤكد أن حالة الاستحضار الاستذكاري في النهار تكون مؤكدة الحصول .. وبالعود الى تسامي مشاعر الشاعر تجاه من يحب نراه عندما يقول : الان يكتمل انتصاري / بأندحار غرور اشجاري / أمام ظلال غابك / الان ارفع راية استسلام قلبي / جهزي قيدي .. / خذي بغدي / لاختتم التشرد بالاقامة / خلف بابك / هنا تتحول الخسارة الى فوز والاستسلام الى انتصار على المستوى الشعوري لدى الشاعر ذلك أن قربه ممن يحب هو الظفر بعينه / لاختتم التشرد بالاقامة / خلف بابك / وإذ يقول :
لازال في البستان متسع لنارك / فاحطبي شجري / عسى جمري يذيب جليد ظنك / وارتيابك / .هنا يؤكد الشاعر تسامي مشاعره مرة اخرى اذ يستحيل شجراً ليحتطبه المحبوب ثم يحيله ناراً عسى ان تذيب حرارتها جليد الظن والشك الذي ملأ كيانه لقد مازج الشاعر بالاسلوب الاستعاري بين عنصرين من عناصر الطبيعة لتكتمل الصورة الحسية البصرية المتحولة وهما النبات ممثلاً بالبستان الذي يشير شجره الى عمر الشاعر او حياته على مستوى الدلالة الرمزية وعنصر الجماد ممثلاً بالجليد الذي يشير على المستوى الدلالي الى تاكيد حالة الشك والارتياب الغائرة والمستمرة في اعماق من يحب وبالانتقال الى قول الشاعر : اني ليغنيني قليلك عن كثير الاخريات / فلا تلومي ضامئاً هجر النمير / وجاء يستجديك كاساً من سرابك .. / هنا اراد الشاعر أن يؤكد تمسكه بالمحبوبة ولذلك فقد ابتدأ بالجملة الاسمية اشارةً الى ثبات ذلك وجعل نفسه مفعولاً به متمثلاً بياء المتكلم في الفعل يغنيني وجعل ما يمثل المحبوبة فاعلاً وهو قليلك الذي يمثل على المستوى الدلالي حالة من القناعة والرضى بالقليل من المحبوبة ورفض الكثير من اخريات غيرها وإذ يتنامى الوجد الصوفي عند الشاعر يذهب الى تأكيد هذا القليل وتوضيحه من خلال المقارنة بين قليلها المطلوب وكثير الاخريات المرفوض هذا الكثير متمثلاً بالتمييز الذي هجره وهو في اشد حالات العطش ويذهب ليستجدي كأساً من سرابها وهنا تجدر الاشارة الى أن الشاعر تمكن بهذا الاسلوب الاستعاري الجميل من أن يبوح بوجد صوفي جعل مشاعره الانسانية ترتقي الى ابعد مدياتها ..
واذ تقترب القصيدة من نهايتها تقترب معها خاتمة هذا الحب العظيم. ذلك أن الشاعر مدرك أن هذا الحب لابد أن يفضي به الى الموت بلظى الاشتياق فيطلب من المحبوبة أن تكفنه بثوب من ثياب عرسها وان تدعو له في صلاتها بأن تمطر السماء على قبره ماء المغفرة لقد وظف الشاعر الماء فيما هو متوارث على المستوى الاجتماعي والادبي في جعل الماء باباً من ابواب الرحمة والمغفرة عسى أن يغفر لشعره الذي اباح حبها بعد ان كتم فؤاده سر ذلك الحب العظيم…