ما هي قصيدة النثر؟
ما هي قصيدة النثر؟ | ||
| ||
| ||
مداخلة افتتح بها يوم السبت 20 آيار 2005 (في الجامعة الأمريكية بيروت) مؤتمر قصيدة النثر الذي انعقد في الجامعة الأمريكية في بيروت لثلاثة أيام. بسبب عدم حضوري الشخصي في هذا المؤتمر لأسباب يعرفها أشخاص تهمني صداقتي بهم، سأركز في مداخلتي هذه على طرح مجموعة من الأفكار المتعلقة بتاريخ قصيدة النثر وجوهرها المصطلحي.. وبعبارات في منتهى الوضوح، على أمل أن تكون النسخة المقررة للنشر في كتاب المؤتمر، أكثر شرحا وموثقة بالمراجع والإحالات. وقد قرأ المداخلة نيابة عني الدكتور ماهر الجرار، وله جزيل الشكر. 1- صحيح أن مصطلح قصيدة النثر كان شائعا منذ القرن الثامن عشر. فوفقا لسوزان برنار أن أول من أستخدمه هو اليميرت عام 1777، ووفقا لمونيك باران في دراستها عن الايقاع في شعر سان جون بيرس، أن المصطلح هذا يعود إلى شخص اسمه غارا في مقال له حول "خرائب" فونلي، وذلك عام 1791. وفي دراسة قيمة، صدرت في باريس عام 1936، حول "قصيدة النثر في آداب القرن الثامن عشر الفرنسية"، يتضح أن المصطلح كان متداولا في النقاشات الأدبية. على أن بودلير أحدث تغييرا في مصطلح قصيدة النثر، وأطلقها كجنس أدبي قائم بذاته، بل أول من أخرج المصطلح من دائرة النثر الشعري إلى دائرة النص: الكتلة المؤطرة. ولم يكن اعتراف بودلير بمرجعية اليزيوس برتران في هذا المجال اعتباطيا أو مجرد اعتراف بالجميل، وإنما كان تلميحا إلى "معجزة نثر شعري" كان يحلم بانجازها. ذلك أن اليزيوس برتران، هذا الشاعر الرومانتيكي، قد ترك تعليمات إلى العاملين على طبع كتابه "غاسبار الليل"، أن يتركوا فراغا بين فقرة وأخرى مشابها للفراغ المستعمل عادة في تصميمات كتب الشعر، وبهذا يكون أول من التفت إلى تقديم نص نثري ملموم ومؤطر في شكل لم يُعرف من قبل. كما أن بودلير كان واضحا أنه يعني شيئا جديدا غير موجود، وذلك عندما كتب في رسالته الشهيرة إلى هوسييه، "من منا لم يحلمْ، في أيام الطموح، بمعجزة نثرٍ شعري". إذن من الخطأ الكبير أن نحاول العثور على أشكال لقصيدة النثر البودليرية في ماضي النثر الفرنسي. ذلك أن بودلير في مشروعه نحو لغة شعرية تستطيع ان تتقاطب وما يتجدد مدينيا في شوارع الحياة الحديثة، جعل كل الشظايا والقِطَع التي كتبت قبله، تنام كأشباح في ليل النثر الفرنسي؛ آثارا توحي ولا تُري أية إمكانية نظرية تأسيسية.
3- قصيدة النثر ولدت على الورقة أي كتابيا، وليس كالشعر على الشفاه، أي شفويا. لم ترتبط بالموسيقى كالشعر ولم يقترح كتابها أن تُغنّى، ولا يمكن أن تُقرأ ملحميا أو بصوت جهوري يحافظ على الوقفة الإيقاعية القائمة بين بيت وآخر/ سطر وآخر كما في قصائد حركة "النظم الحر" (وأقصد Vers Libre، لأن ترجمة هذا المصطلح بـ"شعر حر" يخلق سوء فهم مفاده أن الصراع بين الشعر Poésie والنثر، بينما في الحقيقة الصراع هو بين النثر والنظم). 4- قصيدة النثر لا يختلف بناؤها عن قصر المتاهة المذكور في الأساطير اليونانية. يمكن لشاعر قصيدة النثر أن يبدأ من أي مدخل يشاء: 5- شاعر قصيدة النثر يَعرفُ مسبقا وذهنيا وإلى حد ما حجم الكتلة/ مساحة القَصر. ذلك أن قَصر المتاهة بناء مكون من حيطان تتعاقب وتتقاطع؛ قصيدة النثر فقرة مكونة من جمل تتلاحق بحدةٍ شديدةٍ هبوطا وصعودا، مما تدفع القارئ إلى أن "يستقرئ العواطف البعيدة أو يجسّ الرِعدات الدقيقة... مستضيئا بالجملة اللاحقة ليُبصر السابقة"، كما قال بشر فارس في تلخيصه عن نوع من القصة القصيرة دون أن يدري انه كان يعرف قصيدة النثر. 6- على أن هناك عنصرا مكونا أساسيا الذي فقط من خلاله يمكننا أن نُميز قصيدة النثر عن باقي الكتل، النصوص والأشعار النثرية. إنه اللاغرضية (والبعض يترجم gratuité بالمجانية). وهو أشبه بالخيط الذي أعطته أريان إلى ثيسيوس الذي بقي يتتبعه حتى عرف طريقه الى المخرج من المتاهة. 7- يجب ألا نخلط بين قصيدة النثر والشظية الفلسفية كما عند نيتشه، ففي هذه الشظايا/ الكتل النثرية القصيرة، ثمة قصد فلسفي وغرضية واضحة، أو متسترة وراء موعظة ما. قصيدة النثر هي النثر قصيدةً: كتلة "يتأتى قصَرُها من نظامها الداخلي، ومن كثافتها النوعية ومن حدتها المتزنة". ليس لها أية غرضية، بل خالية من أي تلميح إلى مرجع شخصي: كتلة قائمة بذاتها.. أو كما كتب الشاعر الفرنسي ادموند جالو عام 1942، "قطعة نثر موجزة على نحو كاف، منتظمة ومرصوصة مثل قطعة الكريستال يتلاعب فيها مائة انعكاس مختلف... إبداع حر لا ضرورة أخرى له سوى متعة المؤلف، خارج أي تصميم ملفق مسبقا، في بناء شيء متقلص، إيحاءاتُه بلا نهاية، على غرار الهايكو الياباني"
8- سيداتي سادتي: ما هي قصيدة النثر؟ إنها كل هذا وليس. لكن الشيءَ المؤكد هو انها نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبي مطلبا واحدا مما أتفق جل النقاد عليه، رغم كل الاختلافات بينهم، بشأن قصيدة النثر. هناك أنماط من قصيدة النثر: البارناسية، الرمزية، التكعيبية، السوريالية، الظاهراتية، والأمريكية الغارقة بقضية اللغة والسرد الغرائبي. لكن في كل هذه الأنماط، الشكل واحد أوحد: كتلة قوامها نثر متواصل في جمل تجانس أي نثر آخر. 9- بطبيعة الحال يحق لكل شاعر أن يكتبَ كلٌ وفق نبض أحاسيسه وصوته الخاص، وليسمّ مخلوقاتَهُ كما يشاء، فقط عليه أن يَعرفَ إن مصداقية الشكل والمضمون هي عين ثقة الشاعر بما يقول. وقد يعترض شاعر على أن التسمية ليست ضرورية، ربما، لكن لماذا يسمي "قصيدة نثر" عملا اعتنى بتقطيعه موسيقيا متوسلا كل المحاسن البديعية التي ترفضها قصيدة النثر... بل حتى شدد على وقفات تُعتبر عاملَ بطءٍ إذا استخدمت في كتلة قصيدة النثر؟ أليس اعتباطا أن يسمّيَ شاعرٌ يكتب عادةً أشعارا موزونة، كلّ قصيدة لا يتمكن من ضبطها عروضيا، قصيدة نثر وليس شعرا فحسب! وكأن الشعرَ في نظره ليس سوى تفعيلات قُررت سلفا. 10- رفض الحدود المرسومة لا يتم إلا عندما يعرف الشاعر ما هي هذه الحدود، وبماذا تتميز... حتى يكون لرفضه فضاؤه هو، مُنقى من كل شوائب التسميات التي كانت من طبيعة تلك الحدود المرفوضة. لقد وقف بروتون ضد فكرة الأجناس الأدبية، معتبرا أن الشعر تعبيرٌ عن استرداد المخيلة البشرية لحقوقها، وليس جنسا أدبيا خاضعا لقوانين مدرسية.... ومن هنا لم يسمّ كـُتـَلهُ النثرية قصائد نثرية رغم أن النقادَ يعتبرون بعضَها قصائدَ نثرٍ بامتياز! | ||
|
|