الرمز في الشعر العربي الحديث 2
توظيف الرمز في القصيدة الحديثة سمة مشتركة بين غالبية الشعراء على مستويات متفاوتة من حيث الرمز البسيط إلى الرمز العميق إلى الرمز الأعمق.. وهكذا ومع أن الرمز أو الترميز في الأدب بعامة سمة أسلوبية واحد العناصر النص الأدبي الجوهرية منذ القدم إلا أننا نراه قد تنوع وتعمق وسيطر على لغة القصيدة الحديثة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة, والرمز بشتى صوره المجازية والبلاغية والإيحائية تعميق للمعنى الشعري, ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري, وإذا وظف الرمز بشكل جمالي منسجم, واتساق فكري دقيق مقنع, فأنه يسهم في الارتقاء بشعرية القصيدة وعمق دلالاتها وشدة تأثيرها في المتلقي.
يطير الحمام
يطير الحمام
اعدي لي الأرض كي استريح
فأني احبك حتى التعب
.. أنا وحبيبتي صوتان في شفة واحدة
أنا لحبيبي أنا, وحبيبي لنجمته الشاردة
وندخل في الحلم, لكنه يتباطأ كي لا نراه
وحين ينام حبيبي أصحو لكي احرس
الحلم مما يراه
.. يطير الحمام
يطير الحمام ( 3 )
فالحمام الذي يطير ويحط.. ثم يطير ويحط.. وهكذا.. هو حلم السلام الذي يراود الشاعر وحبيبته أو الذي يضيء وينطفئ في حياة شعبه الذي ينتظر هذا السلام المتأرجح ما بين الأرض والسماء حتى يعود إلى وطنه وينتهي كابوس الاحتلال, فالشاعر لسنوات طويلة, وهو هائم في السماء والأصقاع ويطلب من بلاده ( إن تعد له الأرض كي يستريح ) من ( طيرانه ) الذي لا ينتهي.. فقد تعبت أجنحته ولا بد أن ( يحط ) فوق أرضه.. ويلتقي حبيبته المبعدة.
كبرنا, أنا وجميل بثينة, وكل
على حدة في زمانيين مختلفين
... يا جميل ! تكبر مثلك مثلي
بثينة ؟
تكبر يا صاحبي خارج القلب
في نظر الآخرين..
... هي, أم تلك صورتها
إنها هي يا صاحبي, دمها, لحمها
واسمها, لا زمان لها, ربما استوقفتني
غدا في الطريق إلى أمسها... ( 6 )
*ويقول في قصيدة ( قناع لمجنون ليلى ) :
وجدت قناعاً, فأعجبني أن
أكون أخري, كنت دون
الثلاثين, احسب أن حدود
الوجود هي الكلمات, وكنت
مريضاً بليلى, كأني فتى شع
في دمه الملح, أن لم تكن هي
موجودة جسداً فلها صورة الروح
في كل شيء
... أنا قيس ليلى
غريب عن اسمي وعن زمني
.. أنا قيس ليلى, أنا
وأنا... لا أحد (7 )
يستحضر محمود درويش في هاتين القصيدتين أقنعة العشاق المشهورين في التراث العربي ( جميل بثينة وقيس لبنى ومجنون ليلى ) وينطلق في الترميز والدلالة من حالة الحب الخالد العظيم بين العشاق وحالة الفراق المرير التي مُني كل منهما في حبه وفي عشقه.وهي الحالة التي يسقطها الشاعر على نفسه وعلى حبيبته اليوم ( أرضه ووطنه ) وبأسلوب حواري عميق دال يتساءل ويستفسر من العاشقين المخلصين القديمين إن كان هذا العناء في الحب.. والفشل والفراق البعد القسري عن المحبوبة قد قضى على حبهما أنساهما إياه..لعرف نفسه إن كان هذا البعد والمنفى الطويل عن وطنه قد جعله يألف وطناً آخر.. أو حباً آخر.. بعد أن طالت المسافات.. ومر العصر دون لقاء بالمحبوبة... ولكنه يستشف الجواب الأخير.. ويستنتج الموقف الصريح من ردود جميل وقيس... الردود المقنعة بالرمز والإيحاء.. ويقتنع بعد ذلك بأن الشعراء يكبرون.. والأجيال تمضي من الوطن في انتظار ( لا زمان له ).. في انتظار عودة العشاق.. عودة الآهل.. مهما طال الزمن, فالحبيبة, جسداً أم روحاً .موجودة منتظرة ( فلها صورة الروح في كل شيء ) وان اغترب الشاعر.. وان تاه قيس.. فان الحبيبة حتى النهاية تنتظر ( المريض بليلى ).. تنتظر فارسها وحلمها وعاشقها دون اعتبار لزمن أو مسافة أو منفى قسري.
أما الرموز الفنية العميقة التي يشكلها الشاعر أو يبتكرها ويوظفها لتجسيد حالة ذهنية أو واقعية ينسجها في تراكيب قصيدته, فأنها كثيرة في قصائد درويش في المرحلة المتأخرة.. وربما تكون قصيدة ( بيروت ) تجسد كثيراً من الصور الشعرية الرامزة التي يبتكرها الشاعر في سياقات القصيدة وإيحاءاتها
فراشة فجرية, بيروت, شكل الروح في
المرأةوصف المرأة الأولى, ورائحة الغمام
بيروت من تعب ومن ذهب واندلس وشامفضة, زبد, وصايا الأرض في ريش الحمام
لم أسمع دمي من قبل ينطلق باسم عاشقة
تنام على دمي...وتنام... ( 8 )
ويرسم درويش صورة المواجهة, ويدبر هذه المقولة الشرسة فينا في القصيدة – رمزاً للمقولة الواقعية – ما بين رموز الموت ورموز الحياة.
هوامش..
( 1 ) انظر : ديوان ( أحد عشر كوكباً ) 1993
سرير الغريبة 1999
( 2 ) حصار لمدائح البحر ص 221
( 3 ) المصدر نفسه, ص 21- 222
( 4 ) انظر قصائد ( أقبية أندلسية ) و ( رحلة المتنبي إلى مصر )
( 5 ) سرير الغريبة, ص 116 – 118
( 6 ) المصدر نفسه, ص 118
( 7 ) المصدر نفسه, ص 124
( 8 ) حصار لمدائح البحر, ص 145
جريدة الرأي الأردنية، الجمعة 20/7/2001